كلمات الراب: حين تصبح الأغنية دليلاً قانونياً ضدّ صاحبها

كلمات الراب: حين تصبح الأغنية دليلاً قانونياً ضدّ صاحبها

15 أكتوبر 2019
استُخدمت كلمات إحدى أغاني تيكاشي كدليل في المحكمة (Getty)
+ الخط -
يشهد العالم اليوم حرباً أخلاقية باسم الصواب السياسي Political Correctness ضد الأعمال الفنيّة والأدبيّة، في تهديد لحرية التعبير ضمنها، والتي تأخذ بجديّة المضمون الفنيّ ومدى أثره على الواقع، وتُظهر بعض اتهاماتها سذاجة في عدد من الحوادث، كون العمل الفني والأدبي مهما كان "واقعياً"، يندرج دوماً تحت تصنيف اللعب اللاجدي، كحالة الدعوات التي تقول إن العنف في الأفلام يقود إلى عنف على أرض الواقع؛ التهمة التي تلاحق كوينتين تارينتينو مثلاً ويسخر منها في عدد من المقابلات.
لكن، هذه اللاجدية التي يحتويها الأدب والفن، وفي ظل ما يشهده العالم، قد تتحول إلى تهمة، إذ يصبح مضمون عمل فنيّ أو أدبي دليلاً قانونياً ضد أصحابه. شهدنا حالةً مثل هذه، في محاولات استخدام ديوان الشعر الذي أصدره رادوفان كاراديتش كدليل قانوني ضده بوصفه ارتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانيّة، انطلاقاً من قاعدة أدائيّة، مفادها أن "القائل" يمكن أن يمتلك سلطة تنفيذ ما يكتب أو ينطق، لنرى أنفسنا أمام لعبة لغويّة استفاد منها أو جي سيمبسون مثلاً حين ألف كتاب "لو فعلتها"، الذي يصف فيها كيف يمكن له أن يقتل زوجته بعد أن برّئ من التهمة.
هذه القراءة للعمل الفنيّ لجعله دليلاً قانونيّاً لا تستند إلى الحقائق، بل على تأويل وقراءة مختلفة للمادة الفنيّة. ومقارنة "اللاجدّي" مع "القانوني" كحالة لوي فرديناند سيلين، الكاتب الفرنسي الذي اتهم بمعاداة الساميّة بسبب نصوصه، ولم تثبت التهمة إلا أخيراً بعد اكتشاف الوثائق القانونيّة التي تظهر ضلوعه في قتل اليهود وانتمائه إلى الحزب النازي في فرنسا، مع ذلك، هذه القراءة للعمل الأدبي والمنتشرة الآن، تُسائل حرية التعبير وتهدّد جوهر اللعب نفسه، بوصفه لا جدياً، وساخراً، وذا قواعد مختلفة عن الواقع، حتى لو كان مطابقاً له، إذ يمكن وصف المادة الفنيّة بالكراهية أو التمييز أو العنصريّة، لكن من غير المعقول أن تتحول إلى وثيقة قانونيّة ضد صاحبها.
هذه "القراءة" نراها مع مغني الراب الأميركيّ Tekashi 6ix9ine الذي استُخدمت كلمات إحدى أغانيه كدليل ظرفي في شهادته ضد زميله رجل العصابات nine trey gangsta bloods، بالإضافة إلى غيره ممن استخدمت السلطات كلمات أغنيات الراب والفيديو كليب لبعض الأغنيات ضمن قاعات المحكمة، بوصفها دلائل ضد المغنين المشتبه بهم، كحالة الذي استخدمت كلمات أغنيته "السباق" أثناء نطق الحكم ضده من دون أي فائدة قانونيّة، علماً أنه حُكم لـ 55 عاماً بتهم تتنوع بين القتل والسرقة المسلحة، ووصف الادعاء كلمات الأغنيّة بأنها إشارات إلى نشاطه غير القانونيّ، خصوصاً أنه أطلقها بعد هروبه من السلطات، لتبدو هذه التقنيّة إدانة لهذا الشكل الموسيقي، وكأنه يخفي وراءه عنفاً و"جديّة"، بغض النظر عن حقيقة ذلك أو لا.
تقول أستاذة القانون أندريا دينيس، إن هذا الاستخدام من قبل المدّعين يقدّم عادة بوصف الكلمات اعتراف بالجريمة ودليلاً ظرفياً على أنّ صاحبها ارتكب الجريمة، أو يمتلك النيّة، أو المعرفة أو القدرة أو الدافع، على فعل ما يتهم به.
التعابير القانونيّة المستخدمة في محاكمة عمل فنّي تهدد فنيّته وقدرته على التعبير، كما أنها تحاكم مفهوم الفن نفسه وقدرته على التحرر من الواقع نحو مساحة متخيلة نُمنع حتى من اقتباسها، فهل مثلاً يمكن اعتبار فلادمير ناباكوف متحرشاً بالأطفال بسبب "لوليتا"؟ هل الرواية دليل على ذلك؟ ما الذي تتضمّنه مكونات العمل الفنيّ يختلف في حال الاتهام القضائي؟ وهل تنفي صيغة "الشك" أو "الاتهام" اللعب الفني الذي يكسب "القائل" قدرة على ارتكاب الجرم؟ وهل نحن، حينما نكرر كلمات أغنيّة مثلاً، نبدي نيّة بارتكاب الجرم المشكوك أنها تصفه؟
يبدو استخدام كلمات الراب مجرد حجة عنصريّة، تخفي وراءها اتهاماً دفيناً بأن هذا الشكل الفني حكر على فئة مشكوك في أمرها، وعدوانيّة مبطنة تجاه مؤدّيه، ذات الأمر كان ينطبق سابقاً على الجاز بوصف عازفيه يروجون للمخدرات والحشيش والانحلال الجنسي.
التعامل المفرط في جدّيته مع محتويات العملّ الفنيّ، يهدد الفنان أو الكتاب نفسه، ويخلق نوعاً من الرعب الداخلي لديه أثناء عمله، خصوصاً أن التهديد بالجريمة أصبح ينسحب على عدد من الممارسات الفنيّة، التي كانت منذ منتصف القرن العشرين تتمحور حول إنكار الهولوكوست ومعاداة الساميّة، بوصفها جرائم في بعض البلدان، لكن الآن أصبح بإمكان أي كتلة بشريّة اتهام أحدهم بمعاداتها، بل ومقاضاته، كالتهديدات التي تطاول الكوميدي ديفيد شابيل بسبب عرضه الكوميدي الأخير "حجارة وعيدان". الأهم أن هذه الجديّة، تسعى إلى وضع قواعد ضمن العمل الفني نفسه، وما يجب أن يقال أو لا يقال، لتصبح أشبه برقابة من نوع ما، لم تعد تمارس عبر السخط الاجتماعيّ والنقد الصحافي، بل بالقوة القانونيّة.
تفترض المقاربة السابقة أيضاً أن أي كلام منطوق يستطيع صاحبه تنفيذه، ما يقضي على مساحات المزاح، سواء كان مبتذلاً أو راقياً، وهذا ما يحيلنا إلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب؛ فالجديّة التي يؤخذ فيها كلامه، لا تأتي من مضمون الكلام نفسه، بل من منصبه كرئيس، ورأس الهرم السيادي، والذي يجعل ما يقوله قابلاً للتنفيذ كونه يمتلك "سلطة" تنفيذه، بعكس الفنان، الذي إن قال مثلاً سأشن حرباً على الصين، فسيبدو كوميدياً كونه لا يمتلك سلطة شن الحرب، في حين أن فناناً إن قال سأقتل دونالد ترامب، فقد يتعرض للانتقادات بل والمحاربة والاتهامات المختلفة، لكنه لن يحاكم بوصفه أطلق تهديداً بالقتل.

المساهمون