سينما مغاربيّة في مالمو: اضطراب واقع وعنفه

سينما مغاربيّة في مالمو: اضطراب واقع وعنفه

11 أكتوبر 2019
فاطمة عاطف: أفضل ممثلة (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
يبدأ "مهرجان مالمو للسينما العربيّة" مرحلة التحضيرات الخاصّة بدورته العاشرة، التي تُقام في أكتوبر/ تشرين الأول 2020. تحضيرات يتردّد أنّها لن تكتفي بعروض الأفلام، وتنظيم ملتقى المهرجان وسوقه، وإقامة احتفال "ليالٍ عربيّة"، كعادة الدورات السابقة. فالرغبة في إضافة جديد فعّال ظاهرةٌ، وإنْ بملامح متواضعة. أما الإضافة فمطلوبة، لأنّ المهرجان يمتلك حضورًا في المشهد السينمائيّ العربيّ في أوروبا، ويحاول بلورة أفقه وتفعيل علاقته بجمهورٍ، لا يزال منفضًّا عنه، رغم وفرة حاضرين عربٍ في عروض أفلامٍ، خصوصًا إنْ تكن الأفلام مصرية، فهي لا تزال الأكثر شعبيّة. 

أمّا الدورة التاسعة (4 ـ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2019)، فغنيّة بأفلامٍ تُثير متعة مُشاهدة، وتدفع إلى مزيدٍ من التأمّل بأحوالٍ عربيّة، تعكس اضطرابات وقلاقل ومشاعر متشائمة. عنف الحياة اليومية يُمارَس بشكلٍ غير مباشر، فيزداد الوجع والتمزّق في الروح أساسًا. التهميش الذي يتعرّض له أفرادٌ كثيرون سببٌ لعيشٍ يُقيم في الفقر والتشنّج والكبت والعزلة. بعضٌ أوّل من تلك الأفلام ينبثق من مسائل وحكايات وانفعالات وحالات وأهواء وأمزجة حيوية، تنبض بغليانٍ، وتؤشّر إلى مصائب، وتكشف ألمًا، لكنها تحتاج إلى اشتغالات أعمق وأهمّ ممّا هو مُقدَّم سينمائيًا. بعضٌ ثانٍ يحتاج إلى تأهيل سينمائي فعليّ، لشدّة بهتانه وابتعاده عن لغة الصورة. للوثائقيّ تأثير أعمق وأكبر، لكن بعض التوثيق تلفزيونيٌّ بحت.

الجمالية السينمائية منعكسة في أفلامٍ قليلة. المهرجان يجتهد للحصول على الأفضل، لكن عملية الاختيار غير سهلة البتّة. مخرجون ومنتجون يُفضّلون الذهاب بأفلامهم حديثة الإنتاج إلى مهرجانات أخرى، فمشاركتهم في "مهرجان مالمو للسينما العربية" مؤجّلة إلى دورة لاحقة. "يوم وليلة" للمصري أيمن مكرم مثلٌ مختلفٌ: إنتاجه حديث للغاية، فعرضه في ختام الدورة التاسعة هذه هو الأول له بعد إنجازه. ممثلون وعاملون فيه، مدعوون إلى مالمو، يُشاهدونه للمرة الأولى. هذا إيجابيّ لمهرجان عربيّ في أوروبا.

الأفلام مُشاركة في المسابقات الرسمية. أفلام أخرى تحتاج إلى دعمٍ مالي لإنهاء الاشتغال عليها، تُشارك وغيرها في ملتقى المهرجان وسوقه: قلّة منها تمتلك حساسية السينما في مقاربة الخراب الذي يعتمل في روح مدينة وأناسٍ، وغلبة تُضيِّع آنيّة الحكاية بثرثرة وتسطيح وتوهان، في مقابل عناوين تحول دون تواصل معها، وإنْ يجد مشاهدون في ارتباكاتها انعكاسًا لارتباكات أوضاع وانفعالاتٍ. الملتقى يبلغ خمسة أعوام. أموال تُضخّ في دعم مشاريع وأفلام في مرحلتي التطوير وما بعد الإنتاج، تبلغ 85 ألفًا و500 دولار أميركي، مُقدّمة من جهات إنتاجية وخدماتية عربية وأجنبية، ومن مهرجانات سينمائية مختلفة. 99 مشروعًا وفيلمًا مُقدّمة كلّها إلى المرحلتين، اختير منها القليل: 13 عنوانًا لمرحلة التطوير، و9 لمرحلة ما بعد الإنتاج.



الأفلام الروائية الطويلة المُشاركة في المسابقة الرسمية متفاوتة الجودة. قلّة عددها (8) دافعٌ إلى مُشاهدتها كلّها. التفاوت حاصلٌ في حساسية المقاربة الفنية لمسائل، تتشابه بارتباطها براهنٍ عربيّ مُقيم في القسوة والقلق والتمزّق والخوف والتوهان. أبرزها فيلمان مغربيان هما "أمباركة" لمحمد زين الدين (جائزة أفضل ممثلة لفاطمة عاطف) و"طفح الكيل" لمحسن البصري. كلاهما مُنتجان عام 2018. كلاهما يغوصان ـ بلغة سينمائية نابضة بحيوية الصورة، وبراعة الأداء، وعنف العيش اليومي في بيئات اجتماعية مختلفة ـ في حيوات أفرادٍ يعانون ضغط الحياة وسطوة التسلّط وانسداد الأفق. العنف المبطّن والقاسي أقوى في "طفح الكيل"، إلى درجة أنّ بدايته تُقدِّم محاولة فاشلة للانتحار، ونهايته مفتوحة على انتحار اجتماع برمّته. العنف ظاهرٌ في "أمباركة" بتصرّفات ونبرات وعلاقات، بعضها القليل يواجه ـ بالحب والبراءة والعفوية ـ هذا الوحش القاتل، المتمثّل بانحلال الروابط وسلطة الفقر والتهميش.

كلّ فيلم منهما مستلّ من وقائع العيش على الجمر. الاحتراق يُحاصر الجميع، لكن الجميع منشغلون بكيفية البقاء أحياء وسط انعدام الحياة. محمد زين الدين يذهب إلى مسقط رأسه (واد زم) ليتابع مسارًا يرتكز، في جانب منه، على معاينة أحوال المهمّشين. محسن البصري يبقى في الدار البيضاء، لكن داخل مستشفى يختزل بلدًا غارقًا في الفوضى والفساد والاهتراء.

أما "فتوى" (إنتاج تونسي بلجيكي مشترك، 2018) لمحمود بن محمود (جائزة أفضل ممثل لأحمد الحفيان)، فيندرج في إطار اشتغالٍ سينمائي تونسي على مسائل الإرهاب والأصولية والتزمّت، وعلى أحوال شبابٍ تونسيين يواجهون مخاطر العزلة والفقر والبطالة. وفاة شابٍ في حادث سير تؤدّي إلى عودة والده إلى بلده لدفنه. عودة تكشف مصائب واضطرابات داخلية، ونزاعا دائما بين تشدّد ديني وانفتاح ليبرالي. والدا الشاب المتوفى مطلّقان، والأم مهدّدة بسبب انفتاحها وتحريضها على الانفتاح. الابن ضائع، وحلمه بالفن محطّم، والمتشدّدون الدينيون يحاصرونه ويُغرقونه في عالمهم قبل أنْ يُقتل في حادثٍ مشبوه.

أفلام كهذه تكشف مسألتين متكاملتين: أولى مختصّة بنبض سينمائي حيوي تعيشه السينما المغاربيّة، وغليان اليوميّ في بيئات تعاني اهتراءات وقلاقل مادة تصلح للاشتغال السينمائي. الأفراد نماذج، والجماعات ماثلةٌ في خلفية صورة أو حالة.

المساهمون