"قاهرة ما بعد الثورة": سينما القسوة والاختناق

"قاهرة ما بعد الثورة": سينما القسوة والاختناق

09 يناير 2019
"ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح (فيسبوك)
+ الخط -
في الدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، عُرضت ثلاثة أفلام مصرية، تختلف في سردها ومنطقها ولغتها السينمائية. لكن المشترك بينها كامنٌ في اهتمام صنّاعها بالـ"مكان" كبطل رئيسي لكلّ فيلم منها، يُعبّرون من خلاله عن أسئلتهم وهواجسهم، إنْ يكن المكان مدينةً كبقعةٍ جغرافية واسعة يتمّ التجوّل فيها بسيارة أجرة، كما في "ليل خارجي" لأحمد عبد الله السيد؛ أو شوارع خالية في منطقة سكنية في القاهرة، كما في "لا أحد هناك" لأحمد مجدي؛ أو "منطقة دبغ الجلود"، شديدة الفقر والقسوة، كما في "ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح. 

بعيدًا عن مستويات الأفلام نفسها، ومميزات أو عيوب كلّ واحد منها، فإنّ رؤية مخرجيها الثلاثة عن "مدينتهم" يمكن أن تُشكِّل نقاطًا وتطرح أسئلة مشتركة، تصنع صورة ما عن "قاهرة ما بعد 2011".

في "ليل خارجي"، ينطلق أحمد عبد الله السيّد من نقطة ذاتية جدًا، إذْ تتعدد نقاط التشابه بينه وبين بطله محمد عبد الهادي، المعروف بـ"مو" (كريم قاسم): كلاهما مخرج، يصنع أفلامًا بطريقة إنتاج مستقلة أو على هامش السوق التجارية، ولا تحقّق نجاحًا مُرضيًا. يشعر مو بإحباطٍ نتيجة عدم تمكّنه من إنجاز أي فيلم له منذ أعوام (يعود تاريخ إنجاز آخر فيلم لعبد الله السيّد، "ديكور"، إلى مطلع عام 2014). في الوقت نفسه، هناك شعور بالضيق والخوف من المكان الذي يعاني فيه من الاختناق بمعناه الحرفي، فالشوارع مُكدّسة بالسيارات والزحام، أو بمعناه المجازي، سياسيًا واجتماعيًا، المتمثّل في حادثة سجن صديق المخرج (في الفيلم والحقيقة) أحمد ناجي بتهمة "كتابة رواية خادشة للحياء".

سؤالان جوهريان يطرحهما أحمد عبد الله السيّد عن المكان، وهما شخصيان جدًا: كيف النجاة في مدينة تختنق إلى هذا الحد، وما هي العلاقة وشكل التواصل بينه وبين هذا المكان والأشخاص الذين يعيشون فيه. أمر يُعبّر عنه بشكل رمزي، عبر الفيلم الذي يرغب محمد "مو" عبد الهادي في صنعه، والذي يتناول الهجرة غير الشرعية. تظهر شذرات ومشاهد متخيّلة منه بين حين وآخر، في سياق الأحداث، تعكس الهروب والفرار، بينما الواقع يدور في حكاية أخرى، ويتناول التواصل مع الناس والصلة بهم، حيث يترك البطل نفسه في رحلة طريق قاهرية بالسيارة، رفقة سائق تاكسي (شريف دسوقي) وفتاة ليل (منى هلا). يعيش لحظات حيّة غير متوقّعة، ويصطدم أحيانًا بعنف وقسوة، ويواجه روح المدينة وقسوتها وطبقاتها المتباينة جدًا، ثقافيًا وماديًا واجتماعيًا، رغم قربها المكاني. يحاول مو/عبد الله السيّد، حتى النهاية، أن يجد لنفسه حيّزَ وجودٍ في المكان، كجزء من جيل ما بعد "ثورة يناير"، الذي يشعر بالهزيمة، ويبحث عن سبب للبقاء لا للهروب.

أسئلة متشابهة، وإن يُعبَّر عنها بأسلوبٍ تجريدي مختلف تمامًا، يطرحها "لا أحد هناك" لأحمد مجدي. المدينة هنا ليلية، هي أيضًا، كما في "ليل خارجي". لكن، على عكس الصخب الدائم والحياة التي لا تتوقف في فيلم أحمد عبد الله السيّد، فإن "لا أحد هناك" يستعرض صورة أقرب إلى "ديستوبيا" وعالم منتهٍ، حيث الشخصيات تائهة، تدور حول نفسها من دون بداية أو نهاية، وهي أقرب إلى الأشباح في بعض المشاهد واللحظات. ورغم أن الفيلم لا يشير صراحةً إلى ظرفٍ سياسي أو سبب للخواء الذي يملأ الشوارع، إلا أن المقاربة مع شوارع القاهرة بعد حظر التجوّل الذي فرضته السلطة السياسية عام 2013، بعد إسقاط الرئيس محمد مرسي، والفضّ الدموي لاعتصام "رابعة العدوية"، تلك المقاربة بين صورتي الواقع والفيلم لا يمكن تجاهلها، والإجابة الوحيدة عن مواجهة هذا الخواء والقسوة تأتي بالتضامن، المتمثّل في موقف بطل الفيلم إزاء فتاة لا يعرفها، ورغم هذا يساعدها على القيام بعملية إجهاض؛ أو ببُعد رمزي يحمله البعض الراغب في إنقاذ زرافة من الشوارع المنقبضة، وهذا ـ بحسب ما يقوله أحمد مجدي ـ يُشير إلى "جيل كُتِمَ صوته".

أما الفيلم الثالث، فيبتعد عن التناول الذاتي المباشر، إذْ يذهب أحمد فوزي صالح في "ورد مسموم" إلى منطقة المدابغ القاهرية مرة أخرى، بعد فيلمه الوثائقي السابق "جلد حي"، ويقدّم صورة حقيقية وقاسية ومقرّبة جدًا عن واقعٍ هامشي ومنسي من المدينة. يقلّل المخرج من الاعتماد على الحبكة والحوار، ويُتيح للصورة وشريط الصوت التعبير عن المكان في لقطاتٍ طويلة وغنية تثير التأمّل: كيف يعيش الناس في شوارع وحارات ممتلئة بمياه سامّة بسبب تلوّثها بمواد المدابغ، وما الذي يصنعه القهر فيهم، وكيف يؤثّر في صلاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية وأرواحهم المثقلة بوحشة الواقع واختناق المكان.

على عكس محاولات أحمد عبد الله السيّد وأحمد مجدي للعثور على إجابات عن كيفية النجاة وسط القسوة والمكان الموحش، فإن أحمد فوزي صالح، المنطلق من نقطة أخرى تحمل همًّا جماعيًا أكثر منه فرديًا، لا يقترح سبيلاً للنجاة، بل تيهًا كاملاً لا يتوقف كما يحدث في المشهد الأخير: مكان مميت يحتضر أو ينفجر، كما نشعر طوال الفيلم.

بين الهموم الذاتية، والشعور بالحصار السياسي والاجتماعي، والوضع الاقتصادي المتدهور لأناس يعيشون على "هامش الهامش"، تتشابك الأفلام الثلاثة في رسم صورة لجوانب من "قاهرة ما بعد الثورة"، تختلف فيها أساليب وهواجس صنّاعها، في مقابل تشابه القسوة والأسئلة.

المساهمون