هيبة الحاكم بمواجهة الضحك: لماذا تخاف السعودية من الكوميديا؟

هيبة الحاكم في مواجهة الضحك: لماذا تخاف السعودية من الكوميديا؟

07 يناير 2019
الكوميدي الأميركي حسن منهاج (Getty)
+ الخط -
في صيف عام 2017 في الصين، شدّدت السلطات رقابتها (الحديدية أصلاً) على شبكة الإنترنت، فقامت بحجب كل ما له علاقة بشخصية Winnie the pooh (الدب ويني) الكرتونية الشهيرة. ثمّ في عام 2018، منع عرض الفيلم السينمائي الخاص بالشخصية الشهيرة على أراضيها. السبب وقتها كان بسيطاً، فالناشطون الصينيون المعارضون كانوا يشبّهون "ويني" بالرئيس الصيني شي جين بينغ، في إطار ساخر. وكما هو معروف، لا يحبّ الرئيس الصيني الضحك.

في صيف عام 2014 في القاهرة، عقد الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف مؤتمراً، مع فريق عمل برنامجه "البرنامج؟" معلناً التوقّف النهائي لواحد من أشهر البرامج المصرية مشاهدة في آخر عقدين. غادر بعدها باسم يوسف مصر، ولم يعد إليها، إثر رفع دعوى قضائية ضده وضد الشركة المنتجة للبرنامج، وصدور حكم بتغريمهما ملايين الدولارات. طبعاً كان النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي خلف القضية. وكما هو معروف، عبد الفتاح السيسي لا يحبّ الضحك.

في خريف عام 1999 في بلغراد، وبينما كانت منظمة "أوتبور" الشبابية المعارضة في صربيا، تتظاهر ضدّ الرئيس الصربي وقتها، سلوبودان ميلوسيفيتش، وضع الناشطون صورة لهذا الأخير على برميل في الشارع، ووضعوا إلى جانب البرميل عصاً، كي يتمكّن المارّة من ضرب الصورة في مقاربة ساخرة، لضرورة رحيل ميلوسيفيتش. دقائق قليلة، وظهر رجال من الشرطة وهو يقومون... باعتقال البرميل، ونقله من مكانه. فكما هو معروف لم يكن الرئيس الصربي يحب المقاربات الساخرة.

في ربيع عام 2018، في السعودية. ما الذي حصل في السعودية؟ الحقيقة أنّ ما حصل لم يكن في السعودية، بل في الأردن. ألقي القبض على الكوميدي السعودي الشاب فهد البتيري (1985) في عمّان، تمّ تكبيل يديه، وإقفال عينيه، وأعيد إلى المملكة العربية السعودية مجبراً، حيث دخل السجن في شهر مايو/ أيار 2018. في الشهر نفسه اعتقلت زوجته الناشطة السعودية الشهيرة لجين الهذلول. اختفت أخبارهما تماماً، حتى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، حين خرجت أخبار من سجون المملكة تؤكّد أن البتيري أُجبر على تطليق زوجته، ثمّ اختفى.
بعدها بشهرين، طلبت المملكة العربية السعودية من شبكة "نتفليكس" حذف الحلقة الثانية من برنامج "باتريوتيك آكت" للكوميدي الأميركي حسن منهاج، الذي انتقد فيها ولي العهد إثر قتل الصحافي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية، في إسطنبول في أكتوبر/ تشرين الأول 2018.
وكما هو معروف، وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، لا يحبّ الكوميديا ولا الكوميديين. ومعروف أيضاً، أنه لا يحبّ الصحافيين المعارضين، ولا يحب الناشطات/ ين الحقوقيات/ ين.



في وثائق قضائية بعد هزيمة النازية، نشرها المؤرخ الألماني مايكه ووليرت، يظهر أن الأمن النازي كان يلقي القبض على مواطنين بتهمة "الخيانة والممارسات المشبوهة"، ليتبيّن أنّ تهمتهم كانت إلقاء النكات الساخرة من أدولف هتلر أو من النازية. لكن سرعان ما كان يطلق سراحهم بعد تغريمهم مبلغاً من المال. لا توضح الوثائق لماذا لم يسجن هؤلاء، لكن التفسير الأقرب إلى المنطق، وفق الكاتب الألماني رودلف هيرزوغ، هو أنّ تنفيس الاحتقان السياسي والتململ الشعبي بالنكات، أفضل من تنفيسه في الشارع أو في مواجهات بين المواطنين والأمن والجيش.

لكن يبدو أن حكّاماً آخرين يخافون الاحتجاجات والنكات على حد سواء.

في حلقة "باتريوتيك آكت" المحجوبة، لم يقل حسن منهاج أي كلمة جديدة عن وليّ العهد السعودي. كل ما ذكره عن تغيّر الرواية السعودية حول قتل خاشقجي، وتصوير محمد بن سلمان كإصلاحي رغم خطواته القمعية في الداخل، إلى حرب اليمن، واعتقال الناشطين الحقوقيين، والعلاقة المتينة مع الإدارة الأميركية. كل هذه المواضيع تكتب عنها يومياً عشرات المقالات، وآلاف التغريدات، والفيديوهات الساخرة. يعرف العالم ويعرف معهم السعوديون، أن كل ما سبق يحصل في المملكة. فلماذا حذف الحلقة وحجبها عن المشاهدين السعوديين، بينما لا يزال عرضها متاحاً على "يوتيوب" للجميع في السعودية وخارجها؟

بعد ردود الفعل الدولية إثر إعدام جمال خاشقجي وتقطيع جثته داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، بدا كأن أنظمة العالم تكتشف للمرة الأولى جرائم النظام السعودي بحق حرية التعبير والصحافة. ذهول تام، أدى في أيام قليلة إلى سقوط أسطورة "الأمير الإصلاحي الشاب". تزعزعت الصورة التي حاول محمد بن سلمان رسمها لنفسه ولبلاده، منذ وصوله إلى ولاية العهد. بدا ضعيفاً ومعزولاً.

مع طلب حجب حلقة "نتفليكس"، يعود محمد بن سلمان إلى "الكومفورت زون" أو منطقة الأمان الخاصة به. فرض السطوة الحديدية على كل ما يمكن أن يزعزع صورة القيادة القوية المسيطرة. يبلغنا ولي العهد أنه لا يزال هنا، بكامل السلطات المعطاة له، بموجب "القانون". وأن سلطته تطاول الداخل السعودي، وتطاول كل ما يصدّر إلى هذا الشعب، لو من منصات أو شركات عالمية، وحتى لو في إطار كوميدي. تحديداً في الإطار الكوميدي. تسخيف الحاكم القوي، وتسطيح كلامه، وكشف تناقضاته بالسخرية والضحك، تبدو مخيفة. فالدكتاتوريات موجودة لنخاف منها، لا لنسخر منها. السخرية تفقدها هيبتها، داخل المجتمع المحلي وخارجه.
لكن حجب المحتوى طبعاً يبقى أفضل من حجب صاحبه، كما حصل مع فهد البتيري. أشهر ستاند آب كوميديان في المملكة مختفٍ، رغم أنه لم يلامس يوماً المواضيع السياسية بشكل مباشر أو فجّ. كان فهد البتيري الوجه المشرق للسعودية، حتى إن الإعلام الغربي، وفي إشارة إلى انفتاح محمد بن سلمان، كان يستشهد بفنّ البتيري والمحتوى الذي يقدّمه. هي السعودية الشابة. لكن شباب المملكة اختفى في زنازين بن سلمان. لم يحتج البتيري إلى الانتقاد السياسي الساخر والمباشر. هو زوج لجين الهذلول، الناشطة الحقوقية الشهيرة، "زوج فخور" كما يكتب في سيرته على حسابه الخاص على "تويتر". بالمناسبة، حساب "تويتر" أيضاً تبخّر مع صاحبه. هل اعتقل البتيري بسبب فنّه أو بسبب زواجه؟ الأرجح أن السببين معاً.

لا مكان لمن يخطو خطوة واحدة خارج الحدود المرسومة له. لكل مواطن في المملكة هامش محدد من الحرية. يستهلك ويعتاش منه. لكن أي خروج عن هذا الهامش الضيق والخانق، قد يؤدي إلى الحجب. حجب المحتوى أو حجب صاحبه. اسألوا جمال خاشقجي، أو ما بقي من جثته.

المساهمون