"الباغيت" الفرنسي... حكاية أصلها الحرب

"الباغيت" الفرنسي... حكاية أصلها الحرب

19 يناير 2019
الباغيت أهم مكون من مكونات المطبخ الفرنسي (Getty)
+ الخط -
منذ احتراق أحد المخابز المعروفة في العاصمة الفرنسية باريس قبل أسبوع، ظهرت نكتة على مواقع التواصل الاجتماعي على شكل تساؤل ساخر: ماذا لو اختفى الباغيت؟ وهو سؤال، على سذاجته وتهكمه، يحمل معنى عميقاً للقيمة التاريخية للخبز الفرنسي في الحياة اليومية والثقافة العامة لدى الفرنسيين، على اختلاف مشاربهم وأصولهم.

ويحتمل السؤال نفسه مخاوف حول الحفاظ على أهم مكون من مكونات المطبخ الفرنسي الذي يبدو أن أصله وظروف شعبيته قادمة من الحرب.

قائمة اليونسكو

ويعد الباغيت من ملامح اليوميات الفرنسية. ففي الصباح، ثمّة طوابير تنتظر دورها لتتلقف الباغيت ساخناً. وعند الظهيرة، يعود الفرنسيون لشرائه، لأنه لا يحافظ على بقائه لساعات طويلة، ومن المستحسن استهلاكه بعد ساعة من إعداده.

ولهذا الخبز، بسبب شهرته ومحبة الفرنسيين له، مسابقة سنوية هامة على صعيد الدولة. ويتنافس عليها الخبازون من مختلف المدن والقرى، ومن يفوز بها يحتفظ بمكانة هامة، وتتغير حياته ربما، ويصبح مقصداً حتى للسياح.

ولا يخلو أي بيت من الباغيت، لا شقة ولا مطعم ولا مقهى صغير حتى. يرافق الباغيت الحياة الفرنسية كالماء. تجده مع الوجبات كلها، ومرافقاً لكؤوس النبيذ، ومع فناجين القهوة. يكاد يتجاوز بشهرته "الكرواسان" التقليدي، وله سحره الخاص لدى السياح. يحب الناس الباغيت مع جبنة الماعز، أو مع القشطة، أو مع الزبدة الناعمة الآتية من مزارع النورماندي، أو برفقة المربَّيات المعروفة من براري البيرينيه في الجنوب الفرنسي.

لكن ما هو تاريخ هذا الخبز، وهل يمكن أن يصنف يوماً من ضمن قائمة اليونيسكو للتراث العالمي غير المادي، كما طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وذلك بعدما تم إدراج بيتزا نابولي ضمن اللائحة، وهو ما أثار تساؤلات لدى خبازي فرنسا عن حرمان الباغيت من حقه في أن يكون من التراث العالمي؟

فالباغيت، حسب زعمهم، يستحق وبجدارة. وقال ماكرون يومها إن الباغيت صار "محط حسد العالم". فما هي حكاية هذا الخبز الذي يُحْسَد الفرنسيون عليه؟

الباغيت والحرب

الحكاية كأصل الحكايات كلها، لديها مرويات مختلفة، ولا وقائع نهائيّة حول صدقيّتها.  يقول المؤرّخون الفرنسيّون إن الخبز الفرنسي أصبح على شكله هذا، بما يعرف الباغيت الطويل، بعدما أمر مستشارو نابليون الخبازين بجعله هكذا، تسهيلاً لحمله من الجنود المتنقّلين من حدود إلى أخرى، ومن مواقع قتاليّة إلى معارك ساخنة. وبهذا، لا يضطرون إلى إثقال حمولتهم بخبز دائري. تصبح مهمة حمل الخبز الطويل أكثر سهولة، بوضعه في الجيوب بعد تقسيمه إلى قطع، أو بوضعه في حقائبهم الصغيرة كبواريدهم، أو وضعه على شكل عصا ملتصقاً بأقدامهم. 



(Getty)

أما بعض المؤرخين فيقولون إن الخبز ليس فرنسياً في الأصل، وقد جاء من فيينا. وانتقل مع بدايات القرن التاسع عشر إلى العاصمة باريس، وعرفه الخبازون الباريسيون قبل غيرهم، ثم طوروه ليصبح على شكله الآن، خصوصاً أنّه خضع لقانون خاص يحظر على الخبازين البدء بعملهم قبل الرابعة صباحاً. فصار بهذا الشكل بعد اعتمادهم طريقة تحضير لا تتطلب وقتاً طويلاً للعجن. وأصبح الباغيت خبزاً يحظى بشعبية عالية بعد الحرب العالمية الأولى، بعدما أصيب العديد من الخبازين بتشوُّهات أو شلل من جراء مشاركتهم في القتال، أو بعد فقدان عدد كبير منهم في صفوف المقاتلين، بعد إجبارهم على الالتحاق بالحرب، وكانت هناك ضرورة لصناعة خبز بشكل سريع. فاستخدمت الطريقة النمساوية، وتطورت لتحظى من تلك اللحظة بهذه الشهرة، وأيضاً بالطلب، وفقاً للطريقة التي أجبرت الحرب الخبازين على اعتمادها.

الباغيت العربي والفيتنامي

وتأثرت بلدان كثيرة بوصفة الباغيت الفرنسية. وينتشر انتشاراً واسعاً في بعض البلدان العربية، كالجزائر وتونس والمغرب. ففي الجزائر، هناك الباغيت الذي يشبه بشكله وبعض مذاقه الباغيت الفرنسي، لكن لديه خصوصية أنه أكثر طراوة وقشرته أقل خشونة. وتعد الجزائر البلد الأكثر استهلاكاً للباغيت عالمياً. ومن خلال إحصائيات "منظمة الأغذية والزراعة" (الفاو)، فإنّ الجزائر تستهلك هذا الخبز بمعدل يصل إلى 48 مليونا وستمائة ألف قطعة باغيت يومياً. أما في فرنسا، فيتم استهلاك ما معدله 30 مليون قطعة يومياً.



(Getty)

لكن الخبز الأكثر تأثراً بالباغيت هو الخبز الفيتنامي الذي يطلق عليه اسم "بان مي"، والمصنوع من دقيق القمح الذي استوحاه الفيتناميون من الباغيت الفرنسي، تحديدًا من الفترة الاستعمارية التي امتدت من القرن التاسع عشر إلى حين استقلال فيتنام في عام 1954. وكان هذا النوع من الخبز موجوداً فقط في الأوساط البرجوازية، وكان يستخدم كرقائق الحلوى مع الحليب والشاي.



(Getty)

تحضير الباغيت

وللباغيت معايير خاصة حددها القانون الفرنسي، وبموجبه يجب أن يكون الباغيت مركّبًا من أربعة مكوّنات فقط، هي: الماء، الطحين، الخميرة والملح. في مناطق مختلفة من فرنسا، تكون للباغيت أحجام مختلفة. ولكن متوسّط طول الباغيت يتراوح بين 60 و70 سنتيمترًا، وقطره بين 6 و10 سنتيمترات، ووزنه بين 200 و300 غرام فقط.



(Getty)

وأبرز الوصفات للحصول على باغيت مميز، هو استخدام 300 غرام من الماء، وملعقتين كبيرتين من الملح، وملعقة من السكر، و490 غراما من الطحين، وكيس من الخميرة. توضع كل المكونات في آلة الخبز بمجرد عجن العجين، يتم من بعدها تحويلها إلى أشكال أعواد عريضة، ثم يتم وضع قطعة قماش مبللة على العيدان وتخبز لمدة 25 دقيقة بحرارة 240 درجة.


المساهمون