22 عاماً على رحيل جوزيف صقر: بطل لبنان المضادّ

22 عاماً على رحيل جوزيف صقر: بطل لبنان المضادّ

01 يناير 2019
جوزيف صقر في مشهد من "بالنسبة لبكرا شو؟"(م. ميديا)
+ الخط -
رأى زياد الرحباني في جوزيف صقر حنجرةً له. فالأول، المولود في بيئة جينية استثنائية، تعجّ بالفن من كل صنف ولون، قد تميّز منذ الفتوّة، بالأداء والتأليف، موسيقياً كان أو مسرحيّاً، إضافة إلى حضوره الثقافي والإعلامي الفريد والمثير في آن واحد، في لبنان وفي محيطه العربي. إلا أنه، لم يرث صوتاً فذّاً يؤهله لأداء جميع أغانيه، أو الاضطلاع بأدوار مسرحية غنائية، كتبها هو أو كتبها أبوه عاصي، خصوصاً منها تلك التي اقتضت تقديم ألوان فولكلوريّة لبنانية خالصة. هكذا، عثر الرحباني الابن في جوزيف صقر، الذي تمر ذكرى رحيله اليوم، على ضالّته، بحكم موهبة الأخير الفطرية، وولائه المطلق للبيت الرحباني.
لم يكن جوزيف صقر (1942 - 1997) بقامة فيروز، أو زكي ناصيف، أو وديع الصافي، من ناحية المقدرة الصوتية أو الألق النجومي. إلا أنه في المقابل، كان يمتاز بشفافية نادرة ونفوذية، جعلت من صوته يسكن القلب فوراً، ويستقر في النفس طوعاً، وإذا بمن يسمعه، يشعر لوهلة، كما لو أنه هو من يغنّي. التقط زياد تلك الملكة، واستثمرها بذكاء، في ظروف لبنانية قاهرة، أيام وسنِي الحرب الأهلية، التي جعلت من مجرد تحديد موعد للبروفة، ناهيك عن موعد لحفلٍ أو عرض مسرحي، في ظل التنقّل تحت تهديد الرصاص والقذائف، واجتياز السواتر والحواجز، أمراً فيه معاناة ومشقّة. قلّص ذلك بالضرورة من الخيارات الفنية والإنتاجية، وحصر دائرة العمل بالأصدقاء، وممن أبدى استعداداً للتضحية، في سبيل عرض مسرحية أو تسجيل أغنية.

من هنا، تكتسب شخصية جوزيف صقر، سواءٌ على الخشبة أو خلف الكواليس وفي الحياة، رمزية خالصة، بوصفها تجسيداً لدور البطل المضادّ Antihero في الزمن الصعب، في تماهٍ لافت لأبرز أدواره الفنيّة، بسيرته اليومية في سنوات الحرب، وما تلاها زمن السلم، من ضيق عيشٍ مُزمن وتأزّم سياسي عُضال، لم يشف منه لبنان إلى اليوم؛ لا بل إن جواره العربي، الذي اعتاد هدوءًا نسبياً، قد أمسى مؤخراً هو الآخر، مسرحاً لحرب أعتى وأشدّ، خلّفت ملايين البشر بين موتى ومشردين. هكذا، تغدو الأسطورة في خضم ذلك الهول وتلك المأساة، هي الإنسان، الباقي والمتمسك بالحياة، بُطولته لا تكمن في مقارعته قوى الشر، أو في التصدي لجبروت القدر، والسعي إلى تحقيق النجاحات وإحراز الانتصارات، وإنما في مجرّد مرونته الوجودية، وفي قابليته للتكيّف والتأقلم، ابتغاءً للبقاء، رغم أنف الموت.


اعتاد جوزيف الذهاب والإياب بين قريته قرطبا والعاصمة بيروت. رحلةٌ قد لا يعود منها، إن أصابته عين قنّاص على الطريق، أو انفجرت به عبوة، أو اقتلعت قذيفةٌ رصيفاً يمشي عليه، أو إن هو أوقف على حاجزٍ نصبه أحدهم، قد يُقتاد منه إلى ثقب أسود داخل لبنان أو خارجه. ذلك اللبناني، هو نفسه "أبو ليلى" في مسرحية "فيلم أميركي طويل" (1980)، الذي اعتاد الحياة في الجحيم، وإذا به الآن، يرى في سكونيّة "العصفورية" وإجباره على اجتراع العقاقير النفسية، سلباً لراحةٍ نَعم بها في الخارج، بمجهود التكيّف مع مصادر الخطر اليومية.


بل إن انتشاله من حوض الخوف، وإجباره داخل المصحّ على تنفّس هواء الأمان، وإن لبرهة من الزمان، سيدفعانه في الأخير، إلى معاناة ألم التأمل في حال البلد الرهيبة والتفكّر في حجم الكارثة المحيطة؛ لذا، تراه يطالب بالعودة إلى الخارج الذي اعتاده، عاش فيه، وتأقلم معه، هناك، حيث هو حيٌّ ما دام لم يمت، وهناك، حيث حوله من يُحبّهم، ما دام لم يذهبوا ويتركوه، إلى قبر أو سجن أو منفى، وهناك، حيث آنسته لفافة الحشيشة، وأنْسته هول المصيبة. هذه النزعة الكلبيّة؛ السينيكية Cynicism (أي الواقعية المفرطة، بطعم السخرية واللامبالاة) تصبح هي مصدر قوّة الإنسان، في مواجهة النزاعات التاريخية الكُبرى، تتجسّد بطولته، في مهمّة البقاء حيّاً وتأمين لقمة العيش، وفي حالة جوزيف صقر، في ممارسة الفن الذي أحب، والذي أحبه اللبنانيون من خلاله.



دورٌ آخر لافت، جسّده جوزيف صقر، وإن بصورة سلبية وأشد قسوة، تقديماً لنموذج التكيّف في ظل الأزمات، حين أدّى دور الصرّاف البيروتي في مسرحية "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" (1993)، التي تطرّقت إلى الديناميات المنبثقة عن سنوات الاقتتال الداخلي في لبنان، وكيف أنها بقيت مسيِّرةً لمرحلة وقف القتال، واتفاق الطائف، الذي أنتج بدوره، تفاهماً دوليّاً وإقليميّاً، أنهى الحرب رسميّاً، وأسس نظام المحاصصة في الحكم بين الطوائف المتنازعة في الحرب، كما لبرل الاقتصاد بالكامل، بغية اجتذاب أموال الاستثمار في سبيل إعادة الإعمار. كان لبنان في تلك المرحلة يحاول النهوض من الركام، وهو لا يزال يرزح تحت كاهل أوضاع معيشية واقتصادية بالغة الصعوبة. في هذا السياق، قدّم جوزيف صقر شخصية تاجر العملة الجشع، المراوغ بين الأضداد، والمُهادن لجميع الفرقاء والمستغل لكل الأفرقاء، والمستفيد من مجمل الوضع السائد، بـ "شايلوكيَة" ساخرة طريفة.


ذلك الصرّاف، جعل منه حبه للغناء، ينتحل صفة انتماءٍ لطائفة غير طائفته، بذريعة أن لون العتابا والميجانا في لبنان ظل حكراً على فئة دون أخرى. من جديد، يبرز حب الحياة واحتضان مظاهر التعلّق بها، من غناء ورقص وموسيقى، توكيداً على قيمة التكيّف، كطاقة ومهارة، مبدعة ومتجددة، ميّزت اللبناني خاصةّ والإنسانية عامة. من خلال المنطلق ذاته، يلعب صوت جوزيف صقر أيضاً، دوراً حيويّاً، من جهة أنسنته للأغنية الرحبانية، بعدما وهبتها فيروز صفة القداسة.
حتى إنّ ملامحه وسماته الباعثة على الرقّة والطيبة، رافقت صوته في تقريب الأغنية الرحبانية من اللبناني العادي، لا اللبناني السياسي، أو الفنان، وإنما الإنسان، الذي يستقلّ البوسطة ولن يُزعجه هديرها، اللبناني الذي يقف لساعات طوال، إما على حاجز أمني، أو في طابور ممتد، أمام كوّة لدفع فاتورة ماء أو كهرباء، لن تأتيه سوى لساعة أو ساعتين في اليوم. هكذا، تلد الأسطورة الجمعية من رحم المعاناة اليومية، وبإرادة العيش، يسطّر البشر أعظم الملاحم، وإن في صمت، أو في صوت جوزيف. الحروب الأهلية لا تصنع أبطالاً، بل إما قتلة وانتهازيين، وإما ناجين وضحايا.

المساهمون