"ألفا" لألبير هوغس: حنين الإنسان لأصله

"ألفا" لألبير هوغس: حنين الإنسان لأصله

22 سبتمبر 2018
من "ألفا" لألبير هوغس (فيسبوك)
+ الخط -
يعرض ملصق "ألفا" (2018) لألبير هوغس (1972) نصْفي وجهين لإنسان وذئب بمسافة واحدة من المتلقّي. يرمقان الناظر إليه بعينٍ واحدة، والباقي يبتلعه الظلام. تفيض الصورة بالإيحاءات، لأن مخيلة المُشاهد وذاكرته مشبعتان بحكايات شعبية عن ألغاز الذئب، بل إنّ مشاهداته اليومية تجعله يدرك أنه يعيش ويتاجر و"يرقص مع الذئاب" (عنوان فيلم أخرجه كيفن كوستنر عام 1990 ومثّل فيه دور البطولة). فيلمٌ (ألفا) يتناص مع أفلام سابقة عن سلالة الذئاب المَجيدة في السينما، وآخرها التاجر ـ الذئب في "ذئب وول ستريت" (2013) لمارتن سكورسيزي. 

ما معنى أن تُعرض أفلام ـ يتواجه فيها ذئبٌ مع إنسانٍ وحيدٍ وسط الطبيعة البكر ـ في صالات سينمائية في مدينة كبيرة مكتظة بالناس؟ ما هي هواجس الإنسان قبل 20 ألف عام؟ ما الذي يثير مشاعر المُشاهدين في اللقطات؟ تثيرها تراجيديا بداية الحضارة: الخوف من الموت. مخلبٌ صار تميمة تحمي من مخاطر الطبيعة، وكاهنة تُحدِّد لحظة الانطلاق الجماعي للصيد قبل فصل الثلوج، وتعويذة ونصب وطقوس من الأشكال الأولى للتديّن. للخوف من الموتى أثرٌ كبيرٌ في نشأة الدين البدائي، بحسب جيمس جورج فرايزر في "الغصن الذهبي ـ دراسة في السحر والدين" (ترجمة نايف الخوص، "دار الفرقد"، الطبعة الأولى، 2014، ص. 13). هذا ما يؤكّده "كتاب الموتى الفرعوني" أيضًا.
يعرض "ألفا" صعوبة الحياة في الجليد في أوروبا قبل 20 ألف عام. بغضّ النظر عن تسلسل القصة، فإنّ كلّ لقطة تختزل عمرًا من قصّة الحضارة. لقطة يعيشها بطل الفيلم كمحطة في حياته. تفرض اللقطة على المُشاهد الترقّب، خاصة حين يكون مصير البطل مهدَّدًا. المصير هنا بمعنى الحياة نفسها. قدّم هوغس العلاقات بين الشخصيات بصريًا من خلال اللمس والنظرات، حيث تنكشف الأحاسيس المتبادلة. هذا عن البشر. أما عن الطبيعة، فالتعرّف عليها يتمّ في مشهدٍ يُصوِّر سهلاً تحيط به جبال تكسر أشعة شمس أثناء شروقها. صُوَرٌ تربط بين الفجر كزمن فيزيائي ينجلي فيه الظلام، وفجر بشرية تحبو.

المكان اللانهائي يعْبره إنسانٌ محدود القدرات. تقديمه (المكان) يحصل بكاميرا محلِّقة تعرض مشهدًا بانوراميًا. إدارة الكاميرا ماهرة. كلّ كادر يقدِّم معلومة. الاقتصاد في الكادرات أثناء المونتاج كاقتصاد الجُمل في كتابة كثيفة. الأولوية ليست للتقطيع والكادرات بل للمعنى، ولزيادة وقع الأحاسيس على المُشاهد. تقدّم الكاميرا المشهدَ العام بسرعة، وتقترب كثيرًا من التفاصيل، فيصير الرذاذ بحجم صخرة (لقطة "كلوز آب" قصوى). كلّ ما هو صغيرٌ جميل.
هناك توازن بين المَشاهد الليلية والنهارية. الليلية مُضاءة بالنار، أي من وسط الكادر. عمل ألبير هوغس كثيرًا على الصُوَر التي تجري فيها حركة مستمرة. صُوَر تبدو لوحاتٍ تشكيلية، فيها درجات من اللون نفسه. صورة تخاطب الروح بألوانها. لقطات شاعرية للرذاذ والسُحب تتداخل فيما بينها فتتبدّل ألوانها. هذا إطار بصري منسجم يمتد طيلة مدّة "ألفا" (97 دقيقة). عن هذا النوع من الأفلام، يقول ألفرد هيتشكوك: "في فيلمٍ جيد، يمكن قطع الصوت. ورغم ذلك، لن يجد المُشاهدون أية مشكلة في متابعة ما يجري على الشاشة".



يهرب البطل من الذئب. الأخدود أمامه والحيوان المفترس يطارده. يسقط. ينهض. يتدحرج. عرض ألبير هوغس هذا الاختبار بشكل موجز، ثم طرح حلاًّ جدّ مُفصّل: الإنقاذ مذهلٌ، لأن طوق النجاة هدية من الطبيعة. في الختام، لقطة رهيبة تُثير القشعريرة (يُفضَّل عدم كشف النهاية لإدهاش المُشاهدين).
الإنسان والذئب مُفترسان متشابهان، لذا يتبادلان الكراهية. يلتهم الذئب الدود الذي يتساقط من جرح الإنسان، لأنه جزء من لحمه في نهاية المطاف. وحين يُدجِّن الإنسانُ الكلب، تظهر طائفتان: يصطاد الذئب لنفسه، ويصطاد الكلب لسيّده.

"ألفا" (الحرف الأول في الإغريقية) فيلمٌ عن فجر البشرية، وعن بداية التخلّص من الخوف والجوع للسيطرة على الطبيعة بدل عبادتها، وعن تحقيق الانتقال من الحياة الفردية إلى الجماعية، وعن سنّ قانون القبلية الذي يضمّ بنودًا كثيرة في قانون الغاب، وعن تدجين الفرد للاندماج في الجماعة، وعن تقدير المرأة الأم والكاهنة. في هذا السياق، يتمّ تدريب ابن زعيم القبيلة ليصير زعيمًا بدوره. ابن مُدلّل، ونقطة ضعفه أنه يكره الدم. يُخضَع الابن لاختبار القبيلة قبل أن تطيعه، فيتمرّن على تدجين العدو. يُجوِّعه ليطيعه، ثم يقرّر متى يعطيه اللحم. بفضل الصبر والحنان والتجويع، يُدجّن الذئب. الزمن يغير العلاقات. يفهم المُشاهد أن الزعيم القادر على ترويض الذئب قادرٌ على ترويض أفراد القبيلة. هكذا تلقّى ابن الزعيم تدريبًا ملائمًا.

هذا سردٌ بمستويات متعدّدة. تتوالى اللقطات، ويتشكّل المعنى في ذهن المُشاهد بفضل القوّة الإيحائية للصُوَر. الصُوَر كثيفة، تتجاوز تلك التي يلتقطها المُشاهد لنفسه بهاتفه الخلوي يوميًا. يبدو في لحظات كثيرة أن تأثير اللقطات لا يرجع إلى قوّتها فقط، بل إلى تجذّر قصص البداية في اللاوعي الجمعي للمُشاهدين: قصص الصيد الجماعي اللذيذ، ومتعة إشعال النار. هذا إنجازٌ رهيبٌ في بداية الحضارة. بفضل النار والذئب المُدجّن، تفرّغ الإنسان لمهامٍ أرقى. النار تحمي وتطبخ، ولها الفضل في تغيير شكل فكّ الإنسان الذي كان يمضغ اللحم نيئًا فصار فكّه ضخمًا ومرعبًا وقبيحًا.

ما معنى أن تُعرض أفلام عن الإنسان الوحيد وسط الطبيعة البكر في صالات سينمائية في مدينة كبيرة مكتظّة بالسكّان؟ معناه أنه من البداية إلى اليوم لا يزال توفير المسكن والمأكل هاجسًا إنسانيًا يوميًا، وإنْ يتوهّم المتبرجزون أنّ هذا صار سهلاً. معناه أن مشاعر الخوف والجوع والأبوّة لم تتغير منذ 20 ألف عام. معناه أن حنين الإنسان يكون لأصله.

دلالات

المساهمون