اللهجة واللغة كفعل ثقافي في الأداء السينمائيّ

اللهجة واللغة كفعل ثقافي في الأداء السينمائيّ

20 سبتمبر 2018
كأنه يصنع الشخصية مُجدّدًا أمام الكاميرا (Getty)
+ الخط -
لن يكون إتقانه لغات عديدة دافعاً وحيداً إلى تذكّره في أدوار عربية وأجنبية. إتقانه لهجات عربية جزءٌ من تربية ترتكز على فعلٍ ثقافي في مقاربة أدوار، وأداء شخصيات. لهجات عربية أقلّ عددًا من اللغات، لكنها (اللهجات) تأكيدٌ على حساسية تمثيلية تفترض بالممثل أن يتماهى بالشخصية، وبعوالمها المختلفة، فتُصبح لهجة تلك الشخصية حاجة فنية أساسية. أي أنّ إتقانه العربية باللهجة التونسية مثلاً فعلٌ قائمٌ بحدّ ذاته، يتساوى وحِرفية أداء تجعله يغوص في أعماق البنيان النفسي والروحي والانفعالي للشخصية.
بعد 31 يومًا على احتفاله بعيد ميلاده الـ92، يُعلَن عن رحيل جميل راتب (18 أغسطس/ آب 1926 ـ 19 سبتمبر/ أيلول 2018). ببلوغه عامه العشرين، يُصبح ممثلاً سينمائيًا. الشاشة الصغيرة مغرية له، كما خشبة المسرح. التمثيل أولاً، والإخراج تمرينٌ على اشتغالٍ تمثيلي، أو تلبية لنزوة اختبار. هذه لن تكون تفاصيل هامشية. هذه جزءٌ من شخصيته الحقيقية، هو المتمكّن من خوض تجارب تتناقض في ما بينها أحيانًا، كأنه محتاجٌ إلى حراكٍ دائم أمام كاميرا أو على خشبة. جزءٌ من تاريخه المرافق لتبدّلات في السياسة والاقتصاد والإعلام والاجتماع والإنتاج والمعرفة، ومن مشاركة ـ بشكلٍ أو بآخر ـ في توثيق التبدّلات تلك، تمثيلاً أو معاينة أو مراقبة. جزءٌ من مشاهدة حيّة لمراحل تبدأ من ملكية أصيلة وتنتهي بفرعونية مسطّحة أو مجتزأة أو مُشوّهة.
زمن طويل. عمل حافل بعناوين وأدوار وسينمائيين، وبشخصيات حقيقية محفورة أسماؤها في ذاكرة آدابٍ وفنون. ذات يوم، يُشاهده أندريه جيد (1869 ـ 1951) مؤدّيًا دورًا في "أوديب ملكًا" في باريس قبيل منتصف الأربعينيات. ينصحه الكاتب الفرنسي بدراسة فنّ المسرح، فينصاع للنصيحة. بعد أعوام قليلة، يدخل معترك التمثيل في السينما العربية والأجنبية. يقف إلى جانب بيرت لانكستر (1913 ـ 1994) في "أرجوحة" (1956) لكارول ريد (1906 ـ 1976). يُشارك في "شيشخان" (1992) للتونسيين محمود بن محمود (1947) وفاضل الجعايبي (1945)، ثم في "صيف حلق الوادي" (1996) للتونسي أيضًا فريد بو غدير (1944).

هذه اختبارات لن تكون سهلة. مفتوحة هي على تنويع الأدوار، وتنويع الأداء. حركة الجسد وملامح الوجه أساسية في أداء جميل راتب. نبرة الصوت. نظرة العينين. تحريك اليدين والأصابع. هذا تمهيد لاكتشاف مسامِ الشخصية وروافدها المتأتية من الاجتماع والسلوك والتربية والثقافة والوعي. جميل راتب ماهرٌ في جعل هذا كلّه صورة متوقّدة بمشاعر وتأمّلات. ينهل من الواقع كي يجعل الشخصية واقعية وإنْ تكن غير حقيقية. كأنه يصنع الشخصية مُجدّدًا أمام الكاميرا، بعد كتابتها ورسمها في مخيّلة مخرج ومؤلّف ومنتج. هذا حاضرٌ في أفلام مصرية، تتفاوت أهميتها، لكنها تشترك معًا في حضور باهر لممثل راقٍ. أدواره التلفزيونية منبثقة من اختباراته اليومية. كأنه يُحصّن تقنياته من أي تسطيح ممكن، وإنْ تكن بعض الأفلام عادية، والتحصين نابعٌ من شغفه في تجريب أدوار وعملٍ مع مخرجين مختلفين. كأنه يُحصّن هذا كلّه برغبته العميقة في الذهاب بعيدًا بالشخصية إلى كلّ حافة ممكنة، أو إلى كلّ إبهار أكيد.
لن يتردّد جميل راتب عن تأدية دور مسؤول استخباراتي إسرائيلي، كما في "الصعود إلى الهاوية" (1978) لكمال الشيخ، وفيه تكشف مديحة كامل (1948 ـ 1997) عن مزيدٍ من سحرها في حضورٍ آسر. وهذا قبل أعوام على تأديته شخصية الرئيس محمد نجيب (1901 ـ 1984) في "جمال عبد الناصر" (1999) للسوري أنور القوادري (1953). دوران متناقضان تمامًا، يؤدّيهما ممثل متجانس مع حرفيته المتمكّنة من التنقّل بين تناقضات والتلاعب بها، فالتمثيل لعبة، والأداء مهنة، والأصالة تفترض بالممثل إعلاء شأن التمثيل لا الشخصية الحقيقية لحساب الصورة السينمائية.

يستحيل اختزال سيرته المهنية. هذا عالم قائم بحدّ ذاته. هذا تدريب للمُشاهد على امتلاك حساسية الدهشة، وإنْ خفتَ سطوع الدهشة أحيانًا، فرغم ذلك يبقى لجميل راتب أناقة رجل وأناقة ممثل وأناقة محترف وأناقة مُبتكر. وقبل هذا كلّه أو مع هذا كلّه: أناقة إنسان.

المساهمون