"وراثي" لآري آستر: الأشباح لم تُغادر صالة العرض

"وراثي" لآري آستر: الأشباح لم تُغادر صالة العرض

07 اغسطس 2018
توني كوليت في لقطة من الفيلم (فيسبوك)
+ الخط -
في الأعوام الماضية، شهدت سينما الرعب انخفاضًا واضحًا في مستوى أفلامها، رغم تزايد عددها. سبب ذلك أن الأمر الجاذب للمنتجين في أفلام الرعب كامن في كونها منخفضة الكلفة غالبًا (يكفي التصوير في منزل واحد فقط، في 80 بالمئة من أعمال ذاك النوع)، ومحبَّبة للمُشاهدين. بالنسبة إلى المخرجين، هي مغرية تقنيًا، وتسمح بإظهار قدراتهم.

لكن تلك السهولة النسبية في إنتاج الرعب دافع إلى التوقف عن التعامل معه بجدية كافية إلاّ نادرًا، إذْ يكتفون بفكرة لافتة للانتباه مع لحظات "قفز مخيف" (Jump Scares) بتلاعب في الصوت والمونتاج، ما يجعل المُنْتَج النهائي منخفض القيمة ومتشابها مع عشرات غيره. لم يعد هناك مخرج متفرّد في النوع، كجون كاربنتر وسام ريمي في سبعينيات القرن المنصرم وثمانينياته. لم يعد مخرج كبير يُنجز فيلم رعب لأنه يرى ثراءً فنيًا فيه، كما فعل ستانلي كوبريك في "ساطع" (Shining) عام 1980.

من هنا تأتي أهمية أفلامٍ مثل Get Out (2017) لجوردان بيل ("أوسكار" أفضل سيناريو أصلي لبيل نفسه) المتمكّن من تقديم منظور جديد للنوعية، أو A Quiet Place (2018) لجون كْراسينسكي، الذي حقّق نجاحًا كبيرًا في عروضه التجارية (بدءًا من 6 أبريل/ نيسان 2018، إذْ بلغت إيراداته الدولية 332 مليونًا و583 ألفًا و447 دولارا أميركيا مقابل ميزانية تساوي 17 مليون دولار أميركي فقط).
إليهما، ينضم "وراثيّ" (2018)، باكورة الأميركي آري آستر، الذي بدأت عروضه التجارية في مصر مؤخّرًا. والفيلم يحكي عن عائلة غراهام غريبة الأطوار، ويبدأ مع موت الجدة، التي لا تظهر على الشاشة، متابعًا أثر ذلك على الأسرة. بعد مرحلة تمهيدية للشخصيات والعوالم المختلفة، يُصدم المُشاهد بإحدى أكثر المفاجآت غير المتوقّعة: تموت الشقيقة الصغرى تشارلي (ميلّي شابيرو)، المتوحِّدة والمنطوية على نفسها، في حادث مأسوي على يدي شقيقها المراهق بيتر (ألكس وولف). يتبع السياق أثر ذلك على الجميع، حتى اللحظة الكارثية التي تقرّر فيها الأم آني (توني كوليت) استحضار روح الابنة إلى البيت، ما يدفع الأمور إلى اتجاهات لا يتخيّلها أحد.
الميزة الكبرى لـ"وراثي" (Hereditary) أنه يرتكز على المعطيات الكلاسيكية لسينما الرعب، لكنه يذهب بها خطوة أخرى إلى الأمام. في نصفه الأول، يقدّم دراما نفسية مُقلقة حول الأسرة، وتأثير الأمهات على الأبناء، ويخلق أجواء مؤثّرة وغامضة عن عزلة كلّ فرد من أفراد العائلة، قبل أن يتبدّل كلّ شيء فجأة، فيُصبح فيلم "ما وراء الطبيعة" في نصفه الثاني، دامجًا رعب الأشباح مع رعب الأمكنة الضيقة، بصورة عنيفة ودموية.
هذا تحديدًا ما دفع النقّاد إلى تشبيهه بكلاسيكيات قديمة، كـ"طفل روزماري" (1968) لرومان بولانسكي و"طارد الأرواح الشريرة" (1973) لويليام فريدكن. لكن، على عكس الولاء الكامل الذي يتبعه بعض الأفلام مؤخّرًا إزاء الكلاسيكية، وأفضلها "الشعوذة" (The Conjuring) الذي أنجزه جيمس وان عام 2013، فإن المخرج والمؤلّف آري آستر يتجاوز ذلك، مستعينًا بغموض الرابطة المريبة التي تنتمي إليها الجدة، والتفاصيل المقززة عن قطع الرؤوس والجثث المتعفنة، والميثولوجيا التي يبني عليها جانبًا أساسيًا من قصّته عن "بايمون"، الملك الشيطاني الذي تبحث روحه عن جسد ذكر يافع كي تحلّ فيه، وغيرها من التفاصيل، كي يجعل فيلمه هذا مختلفًا فعليًا، ومنتميًا إلى عام 2018 بمساحة جدل واختلاف وتفسيرات متعدّدة، وليس مجرّد إعادة إنتاج للناجح منذ عقود.
لذا، تباينت آراء الجمهور، فهو لم ينل إعجاب البعض أبدًا، لأن أفلام الأشباح تُفسِّر نفسها، وتنتهي بشكل يُرضي المتفرّجين. هناك انتصار العائلة، أو تجاوز الخلافات القائمة في ما بينهم بعد المحنة التي مروا بها، وهذا اتجاه كان يُمكن للفيلم أن يتّخذه بسهولة شديدة، لكنه لم يفعل، بل استمرّ في متتاليات عنيفة وصادمة حتى نهايته، وذلك بإخلاصٍ شديد للحكاية التي يريد مخرجه روايتها، جاعلاً الكابوس مستمرًّا إلى ما بعد المُشاهدة، كأن الأشباح لم تُغادر صالة العرض، فيكون بهذا كلّه أحد أهم أفلام الرعب في الأعوام الأخيرة.

دلالات

المساهمون