طاهر البني: شهادة على عالم ينهار

طاهر البني: شهادة على عالم ينهار

03 اغسطس 2018
من أعمال طاهر البني (2007)
+ الخط -
عندما كان طاهر البني شاباً، يقفز على مدرجات كلية الآداب في جامعة حلب، قال الباحث السوري، محمد جمال باروت، في صحيفة صدى الجامعة (العدد 21 أيلول 1980)، عن البني: "في مساحة لوحاته تتوالد عوالم جديدة. تتفجّر ألوانه وخطوطه بكلّ انشطاراتها وقهرها وتناميها الداخلي. لغة العالم الآخر الذي يكتشفه في أعماقه. إنّ شخوصه المكتنزة ببؤسها الداخلي وجدالها اللامحدود، تستمد معاناتها من دراما الوجود الإنساني بكلّ ما فيه من اغتراب. طاهر بني شهادة على عالم ينهار، واحتجاج على قوى القمع والاضطهاد".

الآن، طاهر البني فنان وباحث تشكيلي. وُلد في سورية، في مدينة حلب عام 1950، في حي العينين، المتاخم لباب الجنان، وهو ابن حيّ شعبي، يمتهن معظم أبنائه بعض الأعمال اليدوية وبيع الخضار، وبعضهم توجّه للدراسة.
في منتصف الخمسينيات، انتقلت أسرة الفنان إلى حيّ الأنصاري الشرقي، وسكنت في منزل يتألف من غرف محدودة وفسحة، في وسطها بركة ماء، إلى جانب حوض صغير يضم بعض الأزهار العطرة ونباتات الزينة ودالية عنب تظلل الفسحة السماوية. أمام هذا البيت، يربض قن لدجاجات كانت تسرح أمامه.
في هذا الحيّ، كانوا يستعينون بمياه الأمطار التي يجمعونها في براميل، أو يشربونها من صهريج يبيع الماء. لم يكن هناك كهرباء؛ فقد كان مصباح الكاز هو الذي ينير البيت، لكن الطبيعة التي حوله كانت تشحنه بمخيلة تغذي روحه، كما كانت الفراشات الملونة والديكة والدجاجات تسحره بأصواتها، ورائحة خبز التنور تهزّ مشاعره.
في المقابل، كانت محلة العينين، حيث كانت دكان والده، تبهره بأزقتها ودكاكينها، ولا سيما دكاكين باعة الخضار، وتصنيع الأواني النحاسية، وورشات صناعة الأواني الفخارية، والخانات التي يقصدها الريفيون ويربطون دوابهم قبل التجول في الأسواق.
قبل الدخول إلى المدرسة، كانت تثيره رسوم والده، ولا يزال يذكر عندما أجلسه الوالد على ركبته، ورسم له على دفتر صغير صورة الطاووس، وأخرى لجندي وهو يحمل بندقية، ويقف أمام محرسه. وحين دخل المدرسة، راح يرسم أشكالاً آدمية من الحروف، وقد أعجبت الفكرة أستاذ الجغرافيا، فسماه الفنان الصغير.
بدأ طاهر البني العمل في سوق الخضرة، وذلك بعد دوامه المدرسي. وعندما وصل إلى الصف الأوّل الإعدادي، قادته قدماه إلى دار الكتب الوطنية. حينذاك، أقبل على قراءة الكتب والأعمال الروائية والقصصية. في المدرسة، أظهر اهتماماً ملحوظاً في فن الأشغال اليدوية والرسم. وحين أصبح في الصف الثامن، قرّبه منه مدرس الرسم وعلّمه التصوير المائي. وفي الصف التاسع، راح البني يساهم في التحضير لمعرض الإعدادية في نهاية العام، وحين جاء ترتيبه الثاني؛ مُنح علبة ألوان زيتية، وألبوما فنيا لأحد مشاهير الفن الغربي، وسجله الأستاذ في مركز الفنون التشكيلية. في المركز، تعرّف إلى عالم من الفتنة والجمال، وتوهجت هوايته في الرسم والتصوير. في تلك المرحلة، كان يجلس صامتاً وهو يتابع أستاذه نبيه قطاية، يعرض عليهم بواسطة الشرائح الضوئية لوحات ومنحوتات لمشاهير الفنانين الغربيين، وكانوا يخرجون للطواف في حارات حلب القديمة، وهم يحملون معهم عدّة الرسم يسجلون كل ما يبهر أبصارهم.
رسم في غرفة نوم للأطفال صوراً ملونة، ورسم أشكالاً نباتية وزهوراً. بذلك، تحقق المردود المادي الذي ساعده على إتمام دراسته، وكان همه منصباً في المرحلة الثانوية في التحضير للمعرض السنوي. يقول طاهر البني: "أرسم وألون وأبتكر، وأدرب زملائي، وأرعى أعمالهم وأوجه بعضهم، وأقوم بدور مدرّس الفنون متباهياً بموهبتي، ومتفائلاً بما ينتظرني من امتحان يشكل منعطفاً هاماً في حياتي". وجاءت النتيجة، حفاوة كبيرة بالمعرض وبالفنان ورسوب في الامتحان.
في السنة التي تلتها، عمل البني في تدريس مادة التربية الفنية، ودخل كلية الآداب، قسم اللغة العربية؛ فأنجز بورتريهات للأدباء والمفكرين العرب. جاءت مقاربة للصيغ الغربية، وعلى طريقة رامبرانت وأسلوبه في التصوير والتلوين.
أقام الفنان طاهر البني معارض عدّة في حلب ودمشق، ولكنه ما زال يجرب ويبحث عن الجديد في ابتكار صيغ تشكيلية ولونية يسعى إلى ترويضها وتحويلها إلى أبجدية بصرية، تصوغ الأشكال وتحيلها إلى إيحاءات تسود فيها القيم الجمالية والصيغ التعبيرية التي تفتح بوابات التأويل ونوافذ الأمل.
قال عنه التشكيلي والناقد الفني أديب مخزوم: "الفنان طاهر البني ينفرد بالمائيات برؤية مصوغة بالعذوبة والحساسية. يبتعد عن الخشونة التي ميزت المدرسة الوحشية في بداية هذا القرن، ويتبنى لنفسه أسلوباً أحادي الإيقاع عبر لون امتزج مع روحه وإيقاعات الحياة".
وكتب الأديب وليد إخلاصي: "محاولة جادة وصادقة يساهم فيها المؤلف طاهر البني في تثبيت الذاكرة الإبداعية للمدينة، وكذلك في محاولة لإيقاظها. لقد باتت الحاجة ماسة لذاكرة تعيدنا إلى أصولنا، حساسية فائقة للبيئة الفنية ورؤية حلمية لمغامرات المجتمع السوري، في الارتقاء بالحسّ الفردي إلى تشكيل حسّ جمالي فعال".
حالياً، يعمل الفنان، بالإضافة إلى الرسم، في النقد الفني؛ فأصدر كتباً عدّة عن الفن السوري، وأهم الفنانين وأعمالهم. من كتبه: "الفن التشكيلي في حلب" (1997) و"فضاءات تشكيلية" (2002) و"ذاكرة الفن التشكيلي في سورية" (ثلاثة أجزاء/ 2003 - 2006) و"مطالعات في التشكيل السوري" (2011)، وغيرها.

المساهمون