مازن السيد... منتشل "الراب" اللبناني من التكرار

"الراس" مازن السيد... منتشل "الراب" اللبناني من التكرار

26 اغسطس 2018
مازن السيد (فيسبوك)
+ الخط -
يتجاوز مازن السيد في عمله الجديد فعل الفن كأداة احتجاج. يحول ما يمكله إلى تكريس بنائي هدفه التفكيك بدلاً من تركيب أفكار ومشاعر على شكل كلمات وصور كما حال معظم كتابة أغنيات الراب. 

وبالنظر إلى تجربة السيد، فإن أعماله تنتشل هذا الفن المنتشر عربياً بوفرة حالياً، من فحواه المكرر كما هو موجود في أعمال لبنانيين آخرين وعرب أيضاً إلى فضاء أرحب، تتكون فيه الأغنية من أصوات مغلفة وبعيدة، آتية من موروث قديم وفعل آني ولغة خاصة بها، تدمج بين المحكي والفصحى. والأهم أنها تتعاطى مع المرئي بجدية وعمق. فلا يمكن فصل ما يقدمه السيد من صوت ومقاطع عن إنتاج الفيديو الذي يعرض فيه أعماله، وهذا ما يحيلنا إلى الفيديو كليب الذي قدمه منذ سنوات مع المخرج فراس حلاق. وتملك كلمات مازن، الملقب بـ"الراس"، إيقاعاً "مالساً" عكس ما نجده في "جعجعة" الراب المتأثر عادة براب الشوارع النيويوركية. وهو ما يدفع مفاهيم النص، المعنوية والصوتية، إلى تذويب التنميط المعروف عن الراب، خصوصاً في تجربته العربية على كونه كلمات تنسجم في رنتها السمعية، من دون أي دلالة فاعلة أو مضمون متين.

في العمل الأخير لـ"الراس"، الذي أخرجه الشاب الطرابلسي يحيى مراد، يتعدى الاشتغال الصوتي/ المرئي على فعل النص نفسه. يتجاوزان معاً خطوطهما الداخلية كتحميل الرموز والإشارات والحركات إلى تناص. كأن كلاً منهما خلق للآخر. مشدود منه وإليه. وفي هذا إشارة إلى تعاطي الفنانين السيد ومراد، بأنفاس "أصدقاء الحكمة"، أولئك الذين عرفتهم روما كتكامل للمعرفة. والحكمة هنا ليست المثالية المعروفة، بل هي في مفهوم الفن نفسه، أي تعاطيه مع الواقع والمتخيل بأسلوب تضميني، يخرج عن الدعاية البصرية في الإمتاع. رغم ان الإمتاع هنا لم يخفت في كل الصور المولفة، بدءاً من الرقص والحشرجات والتمايل والتنفس المتقطع، ومروراً بفضاء مدينة طرابلس وفوق أحد اسطح أبنيتها الكولونيالية وسط البلد (ساحة التل).


حمل الترميز هنا أفكاراً عامة وخاصة وهموماً مركزية وهامشية. وجاء النص في تركيبته متناغماً مع ما هو سياسي - وأنثروبولوجي، وما هو مياديوي (من ميديا) إلى شعبي وديني ولاهوتي في آن. فنسمع عن قضايا ضج بها الإعلام اللبناني والعربي، وملفات ساخنة تتداول على "السوشيل ميديا" وعن صراعات بين تلفزيونات لبنانية وقوى سياسية (كصراع الجديد وبري)، وكل ما هو شائع في التلفزيون. فبدا أن ما يقدمه السيد ينتقد أيضاً ما يبرزه الإعلام على السطح وما يتجاهله قصداً.

وجاء استخدام مازن لجملة شعبية: "شو بعد عندك جيب هات"، في تكرارها الصوفي وفي حركات المؤدين الساركازمية، متقاطعاً مع صورة الابتهال لدى مريدي حلقات الذكر، ومتناغمة مع العالم السفلي لجلدة المجتمع، في سهراته وغيبوباته وهروبه أيضاً. وهو تقديم بصري مختلف عن فيديو الرابرز الآخرين الذين يحبون تقديم شرائطهم مشابهة لما يقدم في الراب الفرنسي التجاري.


في هذا الفيديو لدقته مسار آخر في عمل الراب العربي، الأفهوم الصغير والذي تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز يبدأ من كل كلمة يصيغها السيد الآتي من عوالم مدينة حطمتها حيتان المال والرازحة تحت إرث حافل بالدم والاقتتال غير المعلن بين عائلاتها الإقطاعية والخيبات من العروبة والقومية، مروراً بالعرفاتية السياسية والحركات الدينية والجهاد والأردوغانية المستجدة، ووصولاً إلى التسول الشعبي أمام مراكز ساستها، أحد أبرز المساهمين في إفقار أجمل مدينة متوسطية، كما وصفها رفيق التميمي في 1916. 
تنتمي هذه المخطوطة البصرية/ الصوتية إلى زمن حداثي في عالم فنون الراب، على الأقل هذا تأسيس لمدرسة تفكيكية في الصوت والصورة، حيث لا أحد يحتاج هنا إلى نصيحة أو رومانسيات أو تباك. نحتاج فقط الى هذه الفجاجة بعمقها الحاد، حد القعر ووصولاً إلى الابتهال، ولسان حالنا يقول لمازن السيد: كل شي (بعد) عندك هات.
















دلالات

المساهمون