"ناس ديلي"... كوابيس الدقيقة الواحدة

"ناس ديلي"... كوابيس الدقيقة الواحدة

22 اغسطس 2018
لن تحتاج سوى ستين ثانية لترمي كل انحياز (Getty)
+ الخط -

قد لا يلقي الجميع بالاً لعالم المشاهير الافتراضي حديث النشوء. ربما تكون الأسباب متعلقةً بالانحياز إلى وسائط قديمة على حساب الجديدة، أو سوء فهم آلية عمل واقتصاد "السوشال ميديا". ولمن لا يعرف، فإن هذا العالم شديد الاتساع ويطال كل النواحي تقريباً، سواء تلك التي عهدناها أو أخرى استطاعت اليوم إيجاد الطريق إلى النور على إثر حيوية هذا المجال ولامركزيته مقارنةً بالوسائط القديمة.
وبما أن النجوم لا تسطع بالشدة ذاتها، فإن تراتبية قديمة ستعيد نفسها، وسيصل الإنسان (سواء قصداً أو بالمصادفة) إلى أروقة "الأكثر شعبية"، ليسأل هناك أسئلته الجديدة أو يعود إلى تلك الأقدم التي لازمت كل عملٍ تصدّرَ سلالم الترتيب.

السائح رقم 1
تتعلق رحلة اليوم بـ"نصير ياسين" أو "Nas – ناس" كما يسمي نفسه. ومما لا شك فيه أن غالبنا صادف، أو تابع، الشاب المعجزة. خريج هارفرد الذي ترك عملاً "يدر الأرباح" وانطلق مستكشفاً العالم، جانياً الأرباح، مجدداً، عبر فيسبوك هذه المرة.
ولننظر إلى هذا التعريف البسيط قبل أن نكمل. شابٌ، (سنغفل ذكر جنسيته في هذا الجزء)، ثري، يطوف العالم ويتعرف على بلدانه المختلفة. يتوقع أحدنا أن يكون باقي الحديث على الشكل الآتي: "وقد أحب الشاب هذه البلدان، ووقع في غرام بساطة بعضها وتطور بعضها الآخر، كما سحرته ثقافة هذه الشعوب، كلها، وأحب مطابخها." وليس الكلام السابق بعيداً كل البعد عن فكرة "ناس" والمحتوى الذي يقدمه ويقوم، ربما، على فكرة أن غالب جماهيره تعجز عن ترك أعمالها "المربحة" والتفرغ لزيارة هذه الأماكن. وربما تكون مسألة الحرمان واحدة من أهم عوامل انتشار هذه الأعمال ذات الشعبية المرتفعة.



مسابقة الالتهام
رغم أن غالب المقاطع التي ينشرها ياسين تتعلق بالرحلات، إلا أن موضوعاتها تتشعب أحياناً، فنراه تارة يحاضر بالتسامح والتعددية، وتارة أخرى يقدم النصح عن ترك "السجائر" و"القهوة" وغيرها. أما ما يجمع هذه الموضوعات البعيدة هو مبدأ "دقيقة لكل فيديو". يبدو الأمر برمته أقرب إلى عالم البازارات والمضاربات. وكأن ياسين وصل إلى أقصر مدة ممكنة ولن يسلبه أحد رقمه القياسي هذا قريباً.

وفي الحقيقة فإن أكثر التخيلات جموحاً لم تكن لتفكر بهذا المآل؛ دقيقة كفيلة بشرح كل شيء. ما عليك سوى التركيز ولن تحتاج سوى ستين ثانية لترمي كل انحياز خبرته –أو لم تعِ وجوده-خارج النافذة، ومعه صحن السجائر والعلبة وتبدأ بـ "تنمية ذاتك".  أو ربما لا، على الإطلاق. وإزاء الاتهامات الموجهة إلى الإنترنت وعالم الشاشات الصغيرة جداً بوصفها عوامل مساهمة في الانحدار المستمر لمتوسط ساعات القراءة أو أي عمليات "طويلة" لاكتساب المعارف، لا يمكن للمرء إلا أن يشيد بأمثال ياسين، ممن وثبوا قفزةً إضافيةً إلى الأمام في عالم الرسائل السريعة المعدة للاستهلاك الفوري.



وهم الطهارة
نسينا ذكر جانبٍ يهوى ياسين التطرق إليه، وهو حال الإنترنت نفسه (بكل تناقض). ويذكر للمستكشف الشاب نشره لمقطع فيديو العام الماضي، منتقداً فيه اعتماد منتجي المحتوى على التعرّي كوسيلة لزيادة شعبية ما يقدمونه. لاقى المقطع آنئذ استحساناً، وبمعزلٍ عن كل شيءٍ آخر فإن ياسين لا يسلك هذا المسلك في الترويج لمحتواه. إلا أنه، أولاً، ليس بحاجة لذلك بوجود خطه الجوي المزدهر، وثانياً، فإنه لا يلبث أن يقع فريسة تناقضات أخرى. إذ قام منذ أيام بانتقاد وسائل الإعلام لاعتمادها العناوين المضللة والمبالغة، متخذاً من استغلال هذه الوسائل لقضية الاحتباس الحراري مثالاً. لكن ماذا عنه؟

يكفي المرور على عناوين مقاطعه ليثبت قيامه بالأمر ذاته. إذ أن غالب هذه العناوين لا يذكر الوجهة التي يزورها ناس ويعرّفها بـ "هذا البلد...إلخ"، كما تغيب عن معظمها صور توضيحية تمنع المشاهد من المتابعة في حال لم يرغب.  كما أنه لا يجد صعوبة في استعمال عنوان مثل "صديقي مات" للترويج. وإن كانت مئات الاعتبارات تدفعنا لرفض الترويج عبر العري، فإن مئات غيرها ستدفعنا لرفض إثارة التشويق حول اسم الصديق الميت! كيف مات؟ وهل سيكسر ياسين قاعدة الدقيقة الواحدة استجابةً لظرف كالموت، ويفكر أن يعامل هذه الحالة على أنها ليست "منتجاً" آخر؟ هل سيفكر بألا يظهر مقطعاً للصديق الذي لا يستطيع مبارحة الفراش قبل موته؟ أو يغير تعبير وجهه الذي يقدمه كل فيديو؟ بالطبع لا، والمؤسف أن الإجابات عن الأسئلة السابقة تتطلب زيادة عدد مشاهدات الفيديو الذي يقدم بالدرجة الأولى حكماً عن الحياة وضرورة استغلالها، لأن الموت يحضر "فجأة"، أو هكذا يقول الشاب الذي يرتدي كنزة طبع عليها نسبة مئوية تحاول التنبؤ بطول حياته، بتناقض غريب!

 

من هو نصير ياسين؟
إن كنا قد أغفلنا "جنسيته" سابقاً، فذلك يعود لصعوبة الإجابة عن هذا السؤال. ولد ياسين في قرية عرابة البطوف الفلسطينية. إلا أنه يكره، على ما يبدو، التسميات الضيقة ككلمة "فلسطيني". ويميل إلى استعمال مسميات مائعة، كـ "عربي إسرائيلي" أو "إسرائيلي فلسطيني".

وإن كان كل ما سبق يتعلّق بمرسل ورسالة رديئين، ويمكن لأيٍ كان أن يلاحظه، فإن الجزء الأخير أكثر تعلقاً بنا. نحن، الذين سيقرّعنا ياسين كما يقرّع المحتل (وهي تسمية لا يستعملها بكل حال).

لم يتطرّق ياسين كثيراً إلى الصراع الدائر في مسقط رأسه، وما الداع إلى ذلك؟ فمن منظورٍ ربحي تبدو زيارة الفيليبين أقل مخاطرةً، كما أن التقاط الصور البديعة هناك أسهل، حيث لن يضطر إلى المقامرة بجماهيره، أو جزء منها، عبر عرض مشاهد كإطلاق النار على المتظاهرين أو رصد القصف بالصواريخ، والاضطرار بالتالي إلى تغيير الجماليات التي تقوم عليها فكرة "ناس دايلي".

ورغم هذا، فإن القليل الذي يدلي به نجم السوشال ميديا في هذا الشأن كفيل باستخلاص رؤيته للصراع القائم، وهو ليس إلا شكلاً مطوراً و"معتدلاً" من التطبيع، القائم على فكرتي تخفيف سقف المطالب ورمي الملامة على "كلا الطرفين"، دون أدنى تفرقة بينهما، وكأنهما تشابها يوماً.

ووراء حديثه المضجر عن نبذ الكراهية والصراعات، واختيار التعايش المشترك محلها، تكمن كل المغالطات التي يمكن لأي مقطعٍ قصير أن يحتويها، ابتداءً بوهم "الخيار" الذي بموجبه يمكن رد حالة الحصار القاسية في قطاع غزة مثلاً إلى خيار انتقاه المحاصرون بمحض الإرادة، أو نمط حياة أحبوا تجربته، كما يفعل هذا السائح. وتتأكد هذه النظرية حين يشرح لنا ياسين بدقيقة ثمينة أخرى كيف نشأت إسرائيل، و"رحل" بعض الفلسطينيين أو "قتلوا" وظل بعضهم. بهذه البساطة المثيرة للسخط. ليكمل ويشرح لنا بساطة الأمر: "ثمة إسرائيل وثمة فلسطين. وهناك أمور في الحياة أكثر أهمية من اسم قطعة أرض" ولا يسعنا أمام هذه النظرية إلا أن نتأمل كم تلائم مفردة "سائح" شخصاً كهذا.

الأمر ذاته حين انتقد الخطوط الجوية الكويتية لرفضها نقله بين الهند والولايات المتحدة مستعملاً جواز سفرٍ "إسرائيلي"، ليصف القرار بـ "السياسي المحض" ويبرز الأمر كخطأ من جانبنا هذه المرة! هيهات، من اللطيف فعلاً أن يتفاجأ ياسين بتداخل قطاعي النقل والسياسة، وكأن حوادث احتجاز المرضى على المعابر تعلّقت بالمخالفات المرورية.
وربما يستطيع نسب تصرفات كهذه إلى أفراد سيئين أو "حبات تفاح فاسدة" كما برر جورج بوش تصرفات جنود الاحتلال الأمريكي في سجن أبو غريب، دون أن يمس ذلك بأدنى قدرٍ خطوط "السياسة"، وكما يفعل هو نفسه حين يحاول التصدي لمشاكل كالعنصرية في القدس، ناسباً كل شيء إلى أفرادٍ أو نسب مئوية تطفو في الهواء، بمعزل عن أي إشارة إلى الصورة الأوسع.
وإذا ما أوغلنا في اختصار "المُختصَر"، فإن رسالة ياسين في جوهرها تخدش بالكاد قشرة ما يجري حقاً، وتبدو أقرب إلى التمتمات عن "العنصرية" و"المساواة" والاحترام المتبادل، ليكون بذلك قد فرّ بعيداً عن الأسئلة الأساسية وبات بإرادته حبيس ساحة إصلاحية صغيرة تلائم توجهه "العالمي الكبير"، التي لن يجد فيها من يصغي إلى مطالبه القاصرة حتى، وكأن التاريخ لم يتكلف عناء تحذيره مسبقاً.

المساهمون