جويل روبوشون... فرنسا تفقد جزءًا من ثقافتها

رحيل جويل روبوشون... فرنسا تفقد جزءًا من ثقافتها

14 اغسطس 2018
حصل سنة 1990 على لقب "طبّاخ القرن" (Getty)
+ الخط -
ليس غريباً أن تحزن فرنسا كلها لرحيل الطباخ الشهير جويل روبوشون، الأسبوع الماضي. فالطباخة فن فرنسي بامتياز، واستطاعت، منذ فترة طويلة، تصديره، إلى جانب صناعتها وثقافتها إلى العالم بأسره. والراحل كان يحتل مكانة متفردة في مشهد الطباخة الفرنسي، خلال أكثر من أربعين سنة. واستطاع أن يستثمر تراث فرنسا الطباخي ومزجه بنفحات من إبداعه وذائقته الاستثنائية. 

لم تكن الطفولة المتواضعة لجويل روبوشون، الذي وُلد في 7 إبريل/نيسان 1945، في بواتيي، توحي بما سيكونه هذا الرجل. فقد كان يصبو، وهو ابن بنّاء، إلى أن يكون راهباً في دير، ولكن القَدَر اختار له مسارا آخَر، أبدع فيه، بشكل غير مسبوق. فقد اكتشف متعة هذا الفن الفرنسي، وقرر أن يمضي فيه بعيداً، من مطعم إلى مطعم. وفي سن الواحدة والثلاثين حصل على لقب أفضل عامل في فرنسا. ثم توالى التكريس. في سنة 1974، أصبح طباخاً في مطعم فندق "كونكورد لافاييت" بباريس، وفي سنة 1978 أصبح طبّاخا في فندق نيكو بباريس، وحصل على نجمتين في دليل "ميشلان". ثم اشتغل سنة 1981 في مطعم "جامان"، وحصل على ثلاث نجمات في ثلاث سنوات. ولكن الرجل الذي كرّس حياته للطباخة، لم يتوقف نشاطه وبحثه من أجل السموّ بذائقة الطباخة، فحصل سنة 1990 على لقب "طبّاخ القرن" من قبل (Gault & Millau).

وفي ما يشبه المفاجأة بالنسبة للكثيرين، قرر سنة 1996 أن يتقاعد ويعيد النجمات التي حصل عليها، بسبب سطوة التوتر وسرعة إيقاع الشغل، تاركاً مطعمه الباريسي لألان دوكاس، وهو عملاق آخر في مجال الطباخة. وانصرف إلى تقديم مهنته على شاشة التلفاز، من خلال برنامجين ناجحين، أمام أكثر من مليون مشاهد، "كيف تطبخ مثل طبّاخ كبير" في القناة الفرنسية الأولى، ثم "شهية طيبة، بطبيعة الحال" على القناة الثالثة، ما بين سنتي 2000 و2009، كما ساهَم، سنة 2001، في إنشاء قناة خاصة بالطبخ "غورميت تي. في".
ولكن روبوشون سرعان ما عاد إلى مهنته، التي لا يتقن سواها، سنة 2003، بكثير من النجاح، الذي لم يفارق حياته المهنية، قط، فافتتح مطعماً جديداً "أتولييه"، وهي عبارة عن "ورشة" في باريس السابعة، ونوع من الطباخة التلقائية، التي لا تخلو من أصالة، بحيث يدفع الزبون، الذي يأتي من دون حجز، ما يقرب من 50 يورو، ويرى، مباشرَة، الأطباق وهي تطبخ وتُعدُّ أمامه.



وهذا الطباخ الذي يتمتَّع بحدسٍ كبيرٍ، حاول أن يضفي نوعاً من الجماهيرية والشعبية على أدائه، ومن هنا يمكن النظر إلى دوره الكبير، في ثمانينيات القرن الماضي، في إعادة البطاطا، وبكثير من الجذل، إلى موائد الفرنسيين، من خلال هريسة البطاطا، بالاستعانة بما بين 200 و250 غراماً من الزبدة لكل كيلو بطاطا. ولم يكن غريباً على الرجل أن يشارك، في شهر إبريل/نيسان الماضي، قبيل وفاته بأشهر، فقط، في برنامج على القناة الفرنسية السادسة، حمل عنوان "توب شيف"، يتبارى فيه 6 طبّاخين حول وصفات طبخ تتخذ من البطاطا أساسا لها.
جويل روبوشون، كان يدافع عن نوع من "الطباخة الجديدة"، خاصة بعد عودته إلى المطبخ، بعد استراحة ضرورية. وهو ما حرص على الدفاع عنه في مطعمه "أتولييه" (محترفه)، سواء الباريسي أو الآخر في طوكيو. وقد أراد إحداث قطيعة مع الطباخة الراقية، ومع الأطباق بالغة التعقيد، ومع إكراهات اليومي القاتلة. ويعترف روبوشون، في لقاء مع مجلة نوفيل أوبسرفاتور، سنة 2003، بأن فكرة تبسيط الطباخة أتته من الأطباق الصغيرة التي تقدمها مطاعم "التاباس" الإسبانية، مُبدياً إعجابَه بالأجواء الأليفة التي ترافق ذلك، فـ"أردتُ معادلةً يمكن أن يَحدُثَ فيها شيءٌ ما بين الزبائن والطبّاخين".

وكانت طريقته تتمثل في إرضاء الزبون عبر أطباق صغيرة وسريعة الطبخ، بحيث يتم الحفاظ على المذاق الأصلي للمنتوج. وهو ما كان يشرحه برغبته في أن ينصرف الزبون "شبعانا ورشيقا".
ويبدو أن جويل روبوشون لم ينجح، فقط، في استمالة الزبون الفرنسي، صعب المراس، بسبب ثقافته الطباخية العريقة والباذخة، بل وفي استمالة زبائن كثيرين في شتى أنحاء العالَم، حيث تنتشر مطاعم "أتولييه"، في هونغ كونغ وبانكوك ولاس فيغاس ونيويورك ولندن ومونتريال وتايبيه وشنغهاي، وغيرها. ودائما بنفس النجاح والإقبال.
ولأنّ من عوامل النجاح في أي مجال الصرامةُ، فقد كان جويل روبوشون، في بحثه عن نوع من "الكمال" صارماً ومتشدّداً مع نفسه، ومع الآخَرين، ولكن رفاقه وتلاميذه، ومنهم جوان مول وفيليب برون وفرانسوا بينو وتومونوري دانزاكي، لا يزالون يحتفظون له بوفاء نادر، وامتنان عميق.
فرنسا في حداد. ولكن كيف لا، وهي قد فقدت واحداً من رموز تفوقها وعبقريتها، "أشهر طباخ في العالَم"، وفقدت واحدا من خير سفرائها، خير من يُسوّق المَهَارَة الفرنسية إلى العالَم، شرقا وغربا.

مات جويل روبوشون، في جنيف، تاركاً خلفه 32 نجمة حصل عليها في مساره المهني، في فرنسا والعالَم، وتاركاً، أيضاً، كثيراً من تلامذته، الذين سيؤبّدون أسلوبه ويمنحون حيواتٍ أخرى لذائقته الاستثنائية، والكثيرَ من عشّاق فنه الطباخي، الذين سيفتقدون رجلا استثنائياً قلَّما يجود الزمان بمثله.

المساهمون