"كارلوفي فاري الـ53": حُطام بشريّ

"كارلوفي فاري الـ53": حُطام بشريّ

06 يوليو 2018
من "لحظات" للتشيكية بياتا باركانوفا (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
تعاني شارلوت (تيريزا هوفوفا)، تمزّقًا جسديًا وروحيًا، إذْ تجد نفسها أسيرة رغبة في الإنجاب غير متحقّقة، وهوس زوجٍ بالتمارين اليومية القاسية الخاصة بسباق الدراجات الهوائية، وحصار يومياتها بين منزل تغادره من أجل تدريسٍ أو سباحة. بهذا، تلتقي ألْبيدا (ستيلّا فيروجيني)، المقيمة في منزلٍ زوجي تغادره إما لتبضّع حاجات يومية وإما للمشاركة في محترف للرسم. 

سيدتان مقيمتان في بلدين/ مجتمعين مختلفين أحدهما عن الآخر (الأولى في تشيكيا والثانية في اليونان)، لكنهما تتشابهان بعيشهما ضغوطًا خارجية تتحوّل إلى مواجع داخلية غير محتملة. فرغبة شارلوت في الإنجاب حاضرة في نفس ألْبيدا وإنْ باختلافٍ قليل في المشاعر والحاجات. وهما، إذْ تصنع الضغوط انفجارًا في أعماقهما المضطربة والمكسورة والمُهانة، لن تختلفا كثيرًا عن أنييسكا (جينوفيفا بوكوفا)، الشابّة التشيكية التي تمضي أيامها بين أم مُصابة بارتباك نفسي، وجدّة لن تكلّ عن طرح أسئلة أو مطالب عليها ولن تتوقّف لحظة عن الثرثرة، وأبٍ يريدها معه في تصريف بعض اليوميات الضرورية، وعشيق متزوّج لن ترتاح إلى مستقبل مشترك بينهما، ومغامرة عابرة مع عازف موسيقي.

هذا يُذكِّر بعنوان الفيلم الجميل لبيدرو ألمودوفار، "نساء على شفير الانهيار العصبيّ" (1988). فرغم أن أنييسكا تبدو، في نهاية المطاف، الأقدر على نجاة ما من خراب داخلي كامل يُحطّمها، فإن الخراب الداخلي هذا يُحطّم شارلوت وألْبيدا، ويدفعهما إلى هاوية الانهيار العصبيّ الكامل. أنييسكا أصغر سنّاً من شارلوت وألْبيدا، لكن ملامحها تكشف حجم الضغوط التي تُثقل عليها، والمتأتية من جهات عديدة، على نقيض شارلوت وألْبيدا، اللتين تخضعان لضغوط جمّة يفرضها شخصٌ أو حالة بشكل أساسيّ.

وإذْ تخرج أنييسكا إلى فضاء أوسع من الحصار الخانق داخل المنزل، من دون أن تنجو من تمزّقها الذاتي الداخلي القاسي، فإن شارلوت لن تعثر على خروجٍ مطلوب من الدائرة المنغلقة عليها إلّا إلى مكانين اثنين (هذا ما يكشفه السرد الروائي لحكايتها على الأقلّ)، تمامًا كما هو حاصل مع ألْبيدا أيضًا. لكن ألْبيدا تتميّز عنهما بوقوعها، منذ البداية، في فخّ الهلوسات والتهيّؤات، التي تحول دون قدرتها على فهم ما يجري معها: أهو واقعي أو مجرّد تخيّلات؟

الانغلاق قاسٍ وخانقٍ في يوميات شارلوت وزوجها رومان (جيري كونفالينكا)، في "منزليّ" (Domestic 2018) لآدم سِدْلاك، المُشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" (عرض عالمي أول). قسوة حصار تولِّد اختناقًا في عيشٍ يتأرجح بين لحظات قليلة من سكينة تبدو، سريعًا، أنها مجرّد استراحة تسبق جولة أخرى من التبادل المبطّن للعنف والاضطرابات. حياة مهدورة بين تمارين تتحوّل إلى هوسٍ بالجسد ومخاوف من العجز الجنسي وقلق من الخسارة الرياضية (رومان)، في مقابل حياة مسحوقة بين خضوعٍ وانهيار يؤدّيان إلى هزيمة الجسد ومقتل الروح (شارلوت).

والانغلاق ـ الذي يُفرض على ألْبيدا في "استراحة" (Pause 2018) لتونيا ميشْيالي، المُشارك في برنامج "شرق الغرب" في الدورة نفسها للمهرجان نفسه (عرض عالمي أول) ـ لن يقلّ قسوة واختناقًا، ولن تختلف مساراته ونتائجه، لشدّة التشابه في الانزلاق نحو هاوية الانفصال عن العالم المحيط بها. ذلك أن شارلوت تعاني ألم الرغبة في الإنجاب وسطوة زوجٍ منصرفٍ إلى ذاته، تمامًا كألْبيدا، التي تمرّ في مرحلة سنّ اليأس وانقطاع الطمث، مع استمرار رغباتها الانفعالية والحسية، والتي تتعرّض يوميًا لأقسى أنواع المهانة من كوستاس (أندرياس فاسيليو)، الزوج المنشغل بحاجاته وروتينه اليومي، في ظلّ وضع اقتصادي ـ اجتماعي منهار جرّاء الأزمة اليونانية الحديثة.

لكن أنييسكا ـ في "لحظات" (Moments 2018) لبياتا باركانوفا، المشارك هو أيضًا في برنامج "شرق الغرب" (عرض عالمي أول) ـ تنوء تحت أثقالٍ متأتية من أشخاصٍ عديدين وحالة نفسية منبثقة من أشكالٍ شتى من الانغلاق، مع أنها تُقيم لوحدها في منزلٍ يبدو أنه لن يكون حصنًا لها يقيها ضغوط قريبين منها. شارلوت وألْبيدا مقيمتان في الغالبية الساحقة من الوقت داخل منزلهما الزوجي، بينما أنييسكا تظهر في منزلها فترة قصيرة للغاية، إذْ لن تجد وقتًا تمضيه مع نفسها. وهي لن تكشف مهنتها إلّا في النهاية، عندما تلتقي مغنّيًا لإجراء حوار معه، فينتهي الأمر بهما في شاحنته.

المهنة معروفة في حالتي شارلوت (مدرِّسة)، وأنييسكا (صحافية، رغم قولها إن الحوار هذا هو الأخير في عملها)، بينما ألْبيدا مكتفية بكونها "خادمة" زوجها، الذي يُضيِّق الحصار عليها تدريجيًا (بيع سيارتها، حرمانها من طعام يُشبعها، رفضه ذهابها إلى محترف الرسم، أسلوبه النزق والغاضب والمتوتر في التعامل معها، إخفاء المال عنها، إلخ.). لكن المهنة غير متمكّنة من تثبيت استقلالية المرأة وحماية حقّها في عيشٍ متساوٍ مع رجلٍ متعنِّت ومُكابر وفارض هيبةٍ تُدمِّر الطرفين، لكونه مسحوقًا أمام طموحات ورغبات (رومان)، أو مقتولاً في ذاته وروحه ما يجعله متسلّطًا على امرأته (كوستاس).

تفاصيل كثيرة تحول دون عيشٍ طبيعي. الأزمة الاقتصادية اليونانية عاملٌ إضافي يُزيد من تشنّج كوستاس المدفوع إلى توهانٍ قاتلٍ، فتكون ردّة فعله مزيدًا من التسلّط على امرأته. الهوس برياضة الدراجات الهوائية عاملٌ أساسي في المسار البطيء للانفجار الحاصل داخل شقّة الثنائي شارلوت ورومان. متطلبات الآخرين إلغاء وإقصاء لأنييسكا الشابّة، التي تتخبّط في انهياراتها ومواجعها قبل أن تعثر على متنفّس لها في لقطة أخيرة، تتمثّل بإطلالتها من علٍ على طبيعة خضراء شاسعة أمامها. وهذا ليس تفاؤلاً أو نهاية سعيدة، بل تأكيدًا على متنفّس ولو قليل ربما يؤدّي إلى جولة جديدة من الضغوط والرفض الصامت والعجز عن الانقلاب، أو إلى نقيض هذا كلّه.

الحُطام البشريّ في الأفلام الـ3 هذه منسحبٌ على رجال أيضًا يظنّون أن رغباتهم أهمّ، وأن لحاجاتهم أولوية مطلقة.

المساهمون