"الأشقاء" لأومير أتاي: الأخلاق أو الولاء العائلي؟

"الأشقاء" لأومير أتاي: الأخلاق أو الولاء العائلي؟

30 يوليو 2018
من "الأشقاء" لأومير أتاي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
رغم الأعوام المديدة التي عمل خلالها في التلفزيون، مُحقِّقًا مسلسلات تركية مختلفة، تمكّن المخرج التركي أومير أتاي (1969) من حماية فيلمه الروائي الطويل الأول "الأشقّاء" (2018) من الوقوع في الفخ التلفزيوني، بجعله فيلمًا سينمائيًّا وبصريًّا بامتياز منذ دقائقه الأولى. 

المثير للانتباه في "الأشقاء" ـ المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" ـ كامنٌ في الخيار الصعب الذي لجأ إليه أتاي في تنفيذه. فبصرف النظر عن حبكته الصادمة، هناك أمورٌ كثيرة مسكوتٌ عنها. ومع بلوغ الدقائق الأخيرة، بالكاد يتعرَّف المثشاهد على أسباب ما شاهده من أحداث وتوترات ومواقف غامضة، وأحيانًا غير مُبرّرة. ثم إنّ الإيقاع شديد البطء، ربما يصل بالمُشاهد غير الصبور إلى حدود الملل، أو مغادرة الصالة: شخصيات تكاد لا تنطق ولا تتحرّك، وما يدور داخلها أكبر بكثير مما يظهر علنًا. هناك برودة تُغلِّف المشاعر، رغم أن الأحداث منضوية في إطار الدراما العائلية، التي تحدث غالبًا بين شقيقين. الحوار، عامة، مُقتضب ومُكثّف ويغلب عليه الغموض.

مع هذا، يحتوي "الأشقاء" على إثارة وتشويق كثيرين لمعرفة دوافع الشخصيات وأسباب تصرّفاتها ومُبرّراتها: لماذا دخل يوسف (يجيت إيجه يازار) إلى الإصلاحية قبل 4 أعوام، عندما كان عمره 13 عامًا؟ أي جرم ارتكبه فأدّى به إلى هذا المصير؟ لماذا الصمت الدائم والحزن المُطلق؟ لماذا شقيقه رمضان (كانر شاهين) المهتمّ الوحيد بزيارته، بينما ترفض والدته وأفراد العائلة لقاءه؟ أسئلة كثيرة مطروحة بخصوصه، وهي تتراكم طوال الفيلم، خاصة مع خروجه من الإصلاحية. هو نفسه يبدأ طرح الأسئلة: عن الأسرة ووالدته، وسبب عدم عودته إلى منزل العائلة، واقتصار إقامته على العيش والعمل في محطة خدمة الشاحنات الدولية المملوكة من عائلته.

المؤكّد أن الأداء الجيد للثنائي إيجه يازار وشاهين وإدارتهما من أتاي لهما أثر بالغ في الحفاظ على إيقاع "الأشقاء"، وإبقاء حالة التوتر، ونشوء علاقة مُلتبسة بينهما. إجمالاً، يُحسب للمُخرج/ كاتب السيناريو بناء شخصيتين بالغتي القوّة، وإشاعة الغموض والتشويق في 103 دقائق، وعدم توضيح أمور كثيرة إلاّ في النهاية. السيناريو مكتوب بشكلٍ خطي، فلا عودة إلى الوراء (فلاش باك) لا في الحوار ولا في التعليق الصوتي ولا في غيرهما. لا ميلودراما أو خطابية أو بكائيات أو أمور تصاحب هذا النوع من الأفلام.



عبر حضور ثانوي للشابة ياسمين (جوزد موتلير)، يظهر ما يكتمه يوسف في صدره منذ أعوام، ويُكشف سبب تمزّقه وعدم تصالحه مع نفسه ومع شقيقه والعالم حوله. تُحرّك ياسمين الأحداث للكشف الجزئي عن المستور. ورغم أنه لا يعرفها جيدًا، يحاول يوسف قتل شقيقه دفاعًا عن شرفها. أخلاقه القويمة وروحه النقية وصلة الدم حالت دون هذا. بسببها أيضًا، يتمّ التعرّف على شقيقته المقتولة قبل أعوام.

"الأشقاء" دراما عائلية شديدة القتامة وثقيلة على النفس. جانب من الثقل كامنٌ في الأداء والإيقاع مع أنهما مُبرَّران وفنيّان لكنهما كادا يُفقدان الفيلم قوته، ويُخلّان بالإيقاع في غير موضع. الجانب الأثقل مرتبط بالأسئلة المطروحة في مستويات مختلفة. عمومًا، يطرح "الأشقاء" قضية الثأر، من دون التوقّف كثيرًا عندها بل عند تبعاتها على يوسف، وفيها يندرج الاجتماعي والأخلاقي والديني وغيرها.

القصة عادية وبسيطة، وربما مُستهلكة. مُجرّدة تقريبًا من الزمان والمكان: عائلة ثرية ترتبط ابنتها بشاب لا ترغب العائلة فيه، فتفرّ معه إلى مدينة أخرى ويتزوّجان. يلاحقهما ذكور العائلة، ومعهم رمضان ويوسف. يُستَخدم يوسف كطُعم لاستدراجها إلى خارج المنزل، كي يقتلها رمضان. ولأن رمضان شابٌ بالغ، يأمر العم بأن يعترف يوسف باقترافه الجريمة، لأنه أصغر سنًّا، فالعقوبة خفيفة عليه، تتمثّل بفترة صغيرة في الإصلاحية. لم تعبأ العائلة بتدمير حياة أكثر من شخص: ابنتهما وزوجها، وخصوصًا الصبي يوسف المغدور به.
إبعاده عن المنزل وعن والدته بعد خروجه من الإصلاحية، وعدم مسامحة الوالدة له رغم مُصارحته لها بأنه ليس الفاعل، تبدأ معاناة يوسف. تدريجيًا، يتصالح (أو يبدو أنه يتصالح) مع نفسه إزاء هذا كلّه، مُتقبّلاً صدمته الهائلة في عائلته وسلوكها معه، خصوصًا شقيقه رمضان المُهيمن عليه والمُتحكم فيه، والذي يخشى أن يفلت لسانه أو يأتي بفعلٍ يودي به إلى السجن. لكن المُعضلة الكبرى التي تفتك به متمثّلة بتمزّقه بين عائلته التي خدعته بجعله قاتل شقيقته وبعدم الحؤول دون زجّه في السجن، واعترافه بحقيقة ما حدث ضد شقيقته الحبيبة وضرورة مُعاقبة الجاني الحقيقي.



قبل رحيلها، وفي بادرة منها للوقوف إلى جانبه ومُساعدته كما ساعدها، تحاول ياسمين أن تحثّه على ضرورة إعادة الأمور إلى نصابها وتحقيق العدالة وعدم ترك الجاني مُطلق السراح، كي يُكَفِّر عن ذنبه تجاه شقيقه. من ناحية أخرى، هناك ضرورة لنسيان ما حدث، والانطلاق نحو حياة جديدة. المُشكلة الكبرى أن يوسف ـ بعد خروجه من الإصلاحية ـ يجد نفسه في سجن آخر أكثر اتساعًا، رغم رحابة الحياة. إنه سجين ماضيه الذي يحكم مُستقبله.

ولكون الأعراف والعادات والتقاليد ورباط الدم لها الكلمة العليا، ولأن كل ما هو أخلاقي وقانوني وإنساني يحتلّ مرتبة تالية، لا يجد يوسف أي مخرج له سوى العودة بنفسه وطواعية إلى المكان الذي أتى منه، أي إلى عالمه الحقيقي وسط رفاقه الجانحين في الإصلاحية.

دلالات

المساهمون