"جبل سليمان": دراما اجتماعية مُثيرة

"جبل سليمان" للروسية إليزافيتا ستيشوفا: دراما اجتماعية مُثيرة

25 يوليو 2018
من "جبل سليمان" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
فازت المُخرجة الروسية إليزافيتا ستيشوفا بجائزة "الكرة البلورية" لأفضل فيلم روائي، في الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، وهو أول روائي طويل لها بعنوان "جبل سليمان"، المُشارك في مُسابقة "شرق الغرب" (12 فيلمًا)، المُكرَّسة لأفلام دول تلك البقعة الجغرافية الأوروبية تحديدًا. 

دراما اجتماعية مُثيرة للانتباه وأخّاذة، تدور أحداثها في قرية ريفية في دولة قيرغيزستان، القريبة من "جبل سليمان"، وهو جبل مُقدَّس عند مُسلمي كازاخستان وقيرغيزستان وغيرهما من الدول المُجاورة لهما منذ آلاف السنين، علمًا أن "قداسته" عائدة إلى ديانات ما قبل الإسلام أيضًا، إذْ يُعتقد أن النبي سليمان مدفون هناك في ضريح يحمل اسمه، وثمة متحف لحفريات الجبل وآثاره موجودٌ منذ الحقبة الشيوعية. شعبيًا، يؤمن كثيرون بمُعجزات الجبل، كالشفاء من أمراض مختلفة، خصوصًا النساء، في مسائل الحمل وولادة أطفالٍ أصحّاء. اليوم، تتولّى "يونسكو" الإشراف المباشر عليه باعتباره من التراث العالمي.

بالإضافة إلى الجانب الدرامي العميق والمؤثّر في الفيلم، والغريب في الوقت نفسه، تقدِّم إليزافيتا ستيشوفا توليفة تجمع بين خلفيات اجتماعية وثقافية وعرقية وفولكلورية عديدة، ما يُعطي صورة بانورامية بعض الشيء عن تلك البُقعة المجهولة من العالم. كما أنها تتيح، عبر قصّة بسيطة، التعرّف على ثقافة بلد ومُجتمع نادرًا ما نسمع عنهما.

تقع قيرغيزستان في آسيا الوسطى، على الحدود مع كازاخستان وطاجيكستان وأوزبكستان والصين. وجوه البشر تجمع بين أعراق مختلفة، وإنْ تغلب على سماتها المسحة الصينية. يبدو المُجتمع مُتحفّظًا، حتى في ما يتعلّق بملابس النساء، خاصة في المناطق الريفية. فيه تلتقي ديانات سماوية وغير سماوية، كـ"الشامانية". لكنه، أحيانًا كثيرة، يبدو كأنه لا يزال غارقًا في ظلمات الشيوعية وشظف العيش، إذْ بالكاد تمسّه روح العصر الحديث ورفاهيته في غير موضع. لديه تقاليد ومُعتقدات غريبة وعديدة، يبدو جليًا أنه لا يزال مُتمسكًا بكثير منها.



زيبارا (بيريزات إيرمانبيتوفا)، مُعالجة روحانية شامانية، تُداوي المرضى بطرق علاجية غريبة، كالجَلْد والضرب والصراخ. في الوقت نفسه، تبيع لمرضاها أعشابًا وصخورًا مطحونة للتداوي بها من الأمراض. في بداية الفيلم، تذهب زيبارا إلى دار للأيتام لاختيار صبيّ تعود إلى قريتها معه، يظهر لاحقًا أنه ابنها المفقود منذ أعوام. ثم يعود الأب كاراباس (أسيت إيمانغالياف)، فيكتشف أن زوجته "عثرت" على الابن الضائع. هناك لغز يتعلّق بالصبيّ المدعوّ أولوك (دانيال دايربكوف): أين اختفى؟ ولماذا أتت به من دار أيتام بعد هذه الأعوام كلّها؟

لا يشكّ كاراباس نهائيًا في قصّة زيبارا بخصوص ابنهما. كل ما يشغل باله الآن الاهتمام بزوجته الجديدة الشابة تورغانبيوبيو (تورغوناي إركينبيكوفا)، فهي ستضع مولودهما بعد أسابيع قليلة. يعمل كاراباس سائق شاحنة بضائع هي مُلكٌ له، يقطع بها البلد طولًا وعرضًا، ويجعلها أحيانًا منزلاً مؤقّتًا لهما أثناء تنقّلهما بين المدن والقرى. مع عودته، تتعقّد الأمور، ليس بسبب زواجه الحديث وحمل زوجته، بل بسبب شخصيته. فهو عصبيٌّ جدًا ومزاجي وشديد العنف، لا يتردّد في ضرب زوجتيه، كما أنه سكّير ومقامر ولص، وبوسعه القيام بأي شيء للحصول على المال.

من ناحية أخرى، تلعب الغيرة المكتومة دورًا في علاقة زيبارا بتورغانبيوبيو. فالأولى تغار من حبّ كاراباس لزوجته الشابة واهتمامه بها، والثانية تغار من زوجته القديمة وابنها، وتُخبر زوجها مرارًا بشكِّها في أنه ابنه فعليًا، لكنه لا يهتم بما تقوله، ولا بزوجتيه وابنه، فهمّه كامنٌ في المال والشراب والقمار. تتطوّر الأحداث، وعندما تُداوي زيبارا والدة عمدة المدينة (يظهر هنا الجانب المدني العصري للمدينة ولسكانها الأثرياء)، يغدق الأخير عليهم أموالاً وهدايا كثيرة، يُبدِّدها كاراباس سريعًا بسبب القمار، إلى درجة أنه يرهن الشاحنة، ما يدفعهم جميعهم إلى الفرار بها.

عبر سيناريو (أليسا خْملنِتسكايا) بسيط في تركيبته وتطوّره الزمني، تتعقد الأمور بين أفراد تلك الأسرة البسيطة. الطفل يمقت كاراباس ويرفض التحدّث معه. ورغم الصعاب، تبقى تلك الحياة شبه الأسرية بالنسبة إليه أفضل كثيرًا من حياة الملجأ. زيبارا مُتعلّقة بزوجها رغم أنها لا تحبّه. في الوقت نفسه، يرفض كاراباس التخلّي عنها، ربما لحاجته إليها كي تأتيه بالنقود عبر مهنتها. عواطفه إزاءها وإزاء ابنهما بالغة البرودة، لكنه ـ في المقابل ـ مُولع بزوجته الشابة، وينتظر ولادة طفلهما بشغف. تتعقّد الأحداث أكثر فأكثر بين أفراد تلك العائلة الفارّة من مصير مشؤوم إلى مستقبل مجهول، والتي تعيش حياتها داخل الشاحنة.



عبر مشاهد متتالية مُنفَّذة بدقة وإتقان بالغين، يدفعان الدراما إلى ذروتها، تظهر أمور عديدة: مثلاً، كيف أن غيرة تورغانبيوبيو دافعٌ لها إلى العثور على شهادة ولادة الصبي أولوك، ومن ثم إطلاع كاراباس عليها، فيدرك كذب زوجته، لأن الصبي ليس ابنه. يضرب كاراباس زوجته الشابة ضربًا مُميتًا، يُودي بحياتها وحياة الجنين. يتخلّص من أولوك وزيبارا، التي تعدو خلفه لتشرح له حقيقة الأمر فتسقط، بعد اختلال توازنها، من الجبل. مع نهاية الفيلم (101 د.)، يزور كاراباس أولوك في دار الأيتام. يكتفيان بتبادل النظرات التي تُغني عن قول الكثير، لكنها، في الوقت نفسه، تفسّر ما تنبّأت به إحدى العرّافات.

في الفيلم تفاصيل دقيقة كثيرة، منها ما يُبرز سمات كثيرة في كلّ شخصية من الشخصيات، بمن فيهم الصبي الصغير أولوك، من دون أي جرعة مشاعر زائدة أو ميلودرامية؛ ومنها ما يُسلِّط الضوء على تلك المنطقة المجهولة من العالم، وعلى هذا البلد الجبلي بطبيعته الساحرة وعاداته وتقاليده وثقافته العريقة، في أوقات الحزن والفرح، التي تبدو مُتشابهة في نقاطٍ كثيرة مع مُجتمعاتنا العربية.

المساهمون