جمال أمين: الفيلم القصير كقصيدة "هايكو"

جمال أمين: الفيلم القصير كقصيدة "هايكو"

29 يونيو 2018
جمال أمين (فيسبوك)
+ الخط -
بدأ مسيرته مع السينما في سن باكرة كممثل سينمائي، إلاّ أنه اتّخذ من الإخراج طريقًا له وقدّم للسينما أعمالاً محلية وأجنبية كثيرة. حمل الهمَّ العراقي في غربة طالت 35 عامًا، إلا أن هذه الغربة منحته الكثير في مجال صناعة الأفلام السينمائية.

تجاوز المعوقات كلّها، ولا يزال يعطي المزيد، ويسير في الطريق الصعبة هذه، لكن اللذيذ بنجاحاتها وانتصاراتها. بدأ ممثلاً دور البطولة في "بيوت في ذلك الزقاق"، ثم استمر كمخرج. أنجز فيلمًا من إخراجه وتمثيله بعنوان "النباح"، الذي دفعه إلى الحنين إلى تجربة التمثيل مجدّدًا.
في لقائه مع "العربي الجديد"، يقدّم المخرج العراقي جمال أمين خلاصة تجربته السينمائية.

 

(*) أنتَ من أكثر المخرجين العراقيين دأبًا على العمل، إذْ أخرجت أفلامًا عديدة، خصوصًا في مرحلة اغترابك. الى أين تريد الوصول؟

ـ أعمل في الغربة منذ نحو 35 عامًا، أُنتج أفلامًا وأخرجها وأمثّل فيها، إذْ أنتجتُ أنا معظم أفلامي، بالتعاون الإنتاجي مع شركات إنتاج خاصة في الكويت والأردن والدنمارك ولندن. حاليًا، أحضّر لإنتاج فيلمي الطويل "الشيوعي الاخير".

لا أزال أحلم بتحقيق أفلامٍ تتناول قضايا العراقيين والعرب في الخارج. طموحي لا يتوقف. الأحلام تتجدّد دائمًا. إصراري على العمل السينمائي جزء من تصميمي على أن أقول إني هنا، وإني أعيش وأحلم وأنتج. أنا مشروع لا ينتهي. أفكّر كثيرًا وأكتب كثيرًا وأتحاور كثيرًا لأني لا أستسلم. عدم وجود منتج أو مؤسّسة حكومية تنتج أفلامي لا يعني توقفي عن العمل، أو التحوّل إلى متفرّج. مستمرّ في العمل حتى آخر دولار أملكه، كي أحقّق أحلامي السينمائية.

(*) أغلب الأفلام التي أخرجتها تتناول مشكلة الجيل الثاني للمغتربين.

ـ نحن نعيش في بلدان ممتلئة حدّ التخمة من النواحي كلّها، وأهمها السينما. مشكلة الجيل الثاني تكون هامشية أو نسبية دائمًا. إذا أُنتجت أفلامٌ تتناول موضوع الجيل الثاني تكون المعالجة سلبية، ولا تتناول أزمة الهوية. كذلك يتمّ إنتاج أفلام تتناول البطل السلبي في الغرب، أو تنتقد ما يحمله المغترب من أفكار، جاعلة إياه دائمًا في زاوية معتمة. هذا نقيض ما أفعله في طرحٍ موضوعيّ ومناقشة للأسباب والظروف التي تجعل المغترب يضيع أو يعيش على هامش الحياة.

أتناول مواضيع قريبة من روح الشباب ومما يعانوه من مشاكل مع المجتمعات الغربية، أو من علاقة غير متوازنة مع الأهل، وكذلك الإحباط. لديّ هذه المقدرة لأني أساسًا لاجئ في أوروبا منذ أعوام مديدة، وعملت في مجالات عديدة. لديّ وثائق تؤكد أن اللاجئ إنسان غير سلبي، وأنه يلتزم قوانين تتيح له فرصة عيش لائقة. لكن الواقع العام رافض لهذا الغريب ولثقافته وأفكاره ومعتقداته ومبادئه. الغرب يريد من اللاجئ أن يكون مخلوقًا بلا روح وبلا فكر وبلا عقيدة، إذْ غالبًا ما تتعارض عقيدة الغريب وفكره وروحه مع المجتمع الغربي. هذه كارثة كبيرة. نعيش حربًا مع أنفسنا ومع الآخرين لنثبِّت ذواتنا. يحتاج الموضوع إلى أفلام كثيرة. هناك أكثر من 4 ملايين عراقي في المهاجر، وغالبيتهم تعاني كيفية إثبات الذات في مجتمع يرفض ثقافتهم.

(*) "ياسين يغني" (2013) يرثي فنانًا تشكيليًا اصطادته الحرب وهو في زيارة قصيرة إلى بلده. "فايروس" (2009) يحكي عن 5 شبان عراقيين في رحلة في سيارة صغيرة من "أودنسا" إلى "أورهوس" في الدنمارك. هل ترى أن المخرج محكومٌ بنوعٍ واحدٍ من الأفلام، أم عليه الخروج الى آفاق أرحب؟

ـ أبطالي يقودوني إلى أفكارٍ كهذه، فهم أرواح هائمة تعاني، ولا مستقرّ لها. غالبيتهم تعيش الازدواجية كي تبدو طبيعية في مجتمعات لا تكترث بأفكارهم أو بالعيش معها ومعهم. يرجع ياسين إلى العراق لأنه يريد الهروب من الدنمارك، بعد رفضه الجنسية الدنماركية. كان يرسم ويبيع لوحاته ويتمتّع بكامل حريته، إلاّ أنه كان يعتبر نفسه مزروعًا في صحراء ثلجية. ياسين واحد من مئات آلاف اللاجئين العراقيين الذين يعانون حالة اكتئاب كبيرة، خاصة أولئك المنتمين إلى الجيل الأول.

أسعى إلى إنجاز أفلامٍ عن مواضيع أخرى أيضًا، كـ"راكا" (1999) عن النحات السويدي راكا، و"إنهم يصنعون الحياة" (2000) عن فنانين مهاجرين ودنماركيين. أفكّر دائمًا بكمية ما يعانيه البطل من توتّر وتأثيرات المجمتع عليه، وأتساءل: هل هو سعيد أم حزين؟ هل هو مندمج أو يعيش في عالم افتراضي أوجده لنفسه؟ غالبية أبطال أفلامي تعيش بقلق وارتباك. أحيانًا، تراهم مندمجين ويعرفون السعادة والمرح. لكن، إذا دخلت إلى أعماقهم، ترى رماد حرائق لا تستطيع هذه المجتمعات إطفاءها. إنهم أرواح هائمة. حتى أن كثيرين منهم يشربون الخمر ويصلّون ويزنون ويأكلون لحم الخنزير ويبحثون عن الحلال، وبعضهم يلبس الدشداشة والمايوه، ولهم عشيقات. هذه خلطة الغربة والعيش في بلدان المهجر. هذه أرواح هائمة. فهل تريدني الذهاب إلى عولم غير حقيقية أو مصطنعة، أم أغوص مع الجيل الثاني الذي وصل الأمر بأبنائه إلى الانتحار؟ الغرب مسؤول عن اللاجئين قانونيًا، لكنه غير مسؤول عنهم نفسيًا واجتماعيًا وفكريًا.

فنانون عراقيون عديدون يعيشون الآن في العراق بعد عيشهم في أوروبا أكثر من 30 عامًا. إنها لوعة الحياة. لذا، سأبقى في محيط دائرة "فايروس" و"ياسين يغني" و"اللقلق" (2014) و"العتمة الأبدية" (2012) لأنها عوالم تمثّلني أنا أولاً.

(*) في أحاديث كثيرة لك، تتوقّف عند رغبتك في إخراج فيلم روائي طويل. هل ترى هذا ضروريًا لأي مخرج، كأن الأنواع الأخرى لا تجدي نفعًا في مسيرته؟ أم ماذا؟

ـ أبدًا. لم يُشكِّل الروائي الطويل همًّا لي. هذا موضوع فني، لأن الأفلام الطويلة تنقلك نقلةً نوعية إلى أن تصبح في قائمة مخرجي السينما، وليس مخرج أفلام قصيرة. للفيلم القصير أهمية كبيرة. هناك مهرجانات وجوائز كثيرة متعلّقة به. أتمنّى إكمال تجربتي الأولى في تحقيق فيلم طويل، لكن هذا ليس حلمي الأكبر. إنتاج فيلم قصير هو كقصيدة "هايكو": تكثيف وترميز واستخدام ذكي ورائع للزمن. هذه الناحية الابداعية أصعب من أن تقوم بها في فيلم روائي أو وثائقي طويل. أكرّر لك: الموضوع فني شكلي، له علاقة بالتسويق والمال والمهرجانات لا أكثر. مع ذلك، أحضّر الآن فيلمًا روائيّا طويلاً سيكون الأول لي، لأن البطل يمرّ في أحداث كثيرة على مدى 40 عامًا، ما يجعلني أمدِّد الموضوع على 70 دقيقة.

(*) ما الذي تراه عائقًا للنهوض بالسينما العراقية؟ أو بمعنى آخر: كيف ترى الخروج من هذه الأزمة؟

أزمة صناعة الأفلام في العراق إنتاجية بحتة. أعني بهذا رأس المال. عندما يعتبر "المصرف الصناعي العراقي" السينما صناعةً، ويبدأ بمنح المنتجين قروضًا، نتخلّص من جزء كبير من المشكلة. العائق الآخر كامنٌ في وجوب أن تكون لدينا شركات متعدّدة للصالات السينمائية لعرض الأفلام والترويج لها وتسويقها، وبالتالي يضمن مانح القرض استعادة ما يدفعه.

أتمنى أن تكون لدينا أفلام اجتماعية ورومانسية و"أكشن" تضع في حساباتها "شباك التذاكر"، ونبتعد عن الأديان والحروب، ونعمل في أطر اجتماعية لكسب الجمهور. فالاعتماد على الدولة مستحيلٌ، لأنها طائفية بامتياز وغير معنيّة بالفن عمومًا. والاعتماد على القنوات الفضائية مستحيلٌ أيضًا لأنها هي أيضًا طائفية بامتياز. الأفضل تأسيس اتحاد للسينمائيين كبديلٍ عن نقابة الفنانين، وتفعيل دوره كي يضمّ المنتجين وكلّ من يعمل في مجال السينما. في بريطانيا، أدفع ما يُعادل الـ20 دولار أميركي شهريًا كضريبة لـ"بي. بي. سي.". تدفعها غصبًا عنك فهذا قانون. لماذا لا نفرض ضريبة على عروض الأفلام تتحوّل إلى "صندوق إنتاج" تابع لـ"اتحاد السينمائيين" مثلاً؟

(*) بدأت ممثلاً، ثم انتقلت إلى الإخراج. هل السبب كامنٌ في عدم ثقتك بأيّ ممثل يؤدّي دور البطولة في أعمالك، يُمكنه الوصول إلى المتلقّي بالشكل الذي تتمنّاه؟

ـ لا أزال ممثلاً، لأني أحبّ التمثيل فهو يمنحني طاقة كبيرة في الحياة. إنه انعكاس مشاعر الجمهور إزائي كممثل، وهو أجمل من انعكاسها لي كمخرج، فالممثلون يحصلون على حصّة الأسد من الاهتمام الجماهيري. عملت مخرجًا لأني أحبّ هذه المهنة التي تجعلني أعبّر عن أفكاري وهمومي، وعن هموم الإنسان عامة. هي أيضًا تمنحني طاقة ومتعة ذاتية كبيرتين. عندما أعمل في السينما ممثلاً أو مخرجًا، أشعر بوجودي.

لغاية الآن أدّيت أدوارًا بطوليًا في نحو 10 أفلام روائية طويلة وقصيرة، ولم أمثّل في أفلامي كلّها، باستثناء تجربتي الأخيرة في "نباح"، إذْ خامرني شعورٌ بأني الأقرب إلى هذه الشخصية من الناحيتين العمرية والشكلية. كذلك، فإن الإنتاج وتكاليفه الباهظة يجعلاني أعتمد على نفسي في تأدية هذه الشخصية التي تحمل اسمي الحقيقي نفسه.

أحيانًا كثيرة، أمارس التصوير أو المونتاج أو الإخراج، وأسجّل الصوت أيضًا. أجيد هذه المهن كلّها لحاجتي إلى العيش. أمارسها في عملي اليومي. لكني أشعر بذاتي في التمثيل والإخراج فقط. بعد "نباح"، أعتقد أني سأحاول تكرار التجربة، لشعوري بمتعة كبيرة في ممارسة التمثيل والإخراج في الوقت نفسه. الممثلون الذين يعملون معي يشعرون براحة تامّة، ولديّ ثقة كبيرة بهم، وإلا لما اخترتهم لأداء أيّ دور. أنا صديق للممثل وأشعر بمعاناته وبأهمية العمل على الغوص في دواخل الشخصيات. معظم الذين يعملون معي يخرجون بتجربة جيدة كما يقولون.

المساهمون