"أيكا" لسيرغي دفورتسفوي: نشيد ميلودرامي

"أيكا" لسيرغي دفورتسفوي: نشيد ميلودرامي

20 يونيو 2018
من "أيكا" لسيرغي دفورتسفوي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
قبل 10 أعوام، فاز المخرج الروسي سيرغي دفورتسفوي (1962) بجائزة تظاهرة "نظرة ما"، في الدورة الـ61 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2008) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، عن فيلمه الروائي الأول "تولبان". مع فيلمه الروائي الثاني "أيكا"، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) للمهرجان نفسه، فازت سامال إسْلياموفا بجائزة أفضل ممثلة، بجدارة واستحقاق، عن تأديتها دور الفتاة الكازاخستانية أيكا.

مِن بداية "أيكا" إلى نهايته، يصعب تصديق أن الأحداث تدور في روسيا، وتحديدًا في موسكو القرن الـ21. فالبيئة المُحيطة بأيكا وبالشخصيات القليلة الأخرى، وظروفها المعيشية القاسية، تستدعي الأجواء البائسة في أعمال الكتَّاب الروس الكبار، والشخصيات الأدبية التي ابتكروها، وتجسيد صراعاتها مع الحياة والمجتمع، ومع الوجود بشكلٍ عام. ذلك أن ظروف أيكا تُذكِّر بعنوان رواية "الحضيض" لمكسيم غوركي وأجوائها. أما تكوين شخصيات الفيلم فينطبق عليه عنوان رواية "مُذلّون ومُهانون" لفيودور دوستويفسكي. ورغم اختلاف موضوع الرواية عن حبكة الفيلم، إلا أن أيكا تجسيد حي للذُلّ والمهانة في أوضح صُورهما داخل المجتمع الروسي المعاصر.

في 100 دقيقة هي مدّة الفيلم، لا يتوانى سيرغي دفورتسفوي عن تقديم المآسي تلو الأخرى التي تتعرّض لها أيكا. صحيح أنها تبدو في البداية نموذجًا لأمٍ بالغة الإجرام ومُنعدمة المشاعر، إذْ تترك وليدها في المستشفى بعد ساعات قليلة على ولادته، وتهرب بعد رفضها إرضاعه؛ لكن، مع تطوّر الأحداث، تظهر أيكا مُجرّد ضحية، كرضيعها الذي تركته.

هي مُهاجرة جاءت حديثًا إلى روسيا. استطاعت ترتيب أوضاعها، لكن إجازة عملها انتهت مدّتها، فبات عليها العمل سرًّا، مُقابل فُتاتٍ لا تحصل عليه غالبًا. تُلاحقها الديون، وتُطاردها العصابة التي أوصلتها إلى روسيا. مُضطرّة للسكن في نُزل يتكدَّس فيه العشرات، حيث كلّ شيء فيه مُشترك ومُشاع بين الجميع، باستثناء فراشها. تُجاهد في البحث عن عمل يتيح لها تسديد ديونها. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حالتها الجسدية والصحية غير سليمة جرّاء الولادة، فهي لا تزال تنزف بعد أيام من مغادرتها المستشفى، ويُؤلِمُها صدرها لتورّمه جراء تراكم الحليب فيه.

إنسانة تُعاكسها الظروف بشكل يبدو كأنه مُتَعَمَّد ومُتَعَسِّف. ينفضّ كثيرون عنها لا لعيوب شخصية فيها، بل لأن الجميع، في هذا المجتمع العصري المُنسحق، يئنّون مثلها. طحنتهم الظروف والأوضاع الاقتصادية، وأماتت قلوبهم. تعمَّد سيرغي دفورتسفوي، بمهارة وحسّ فني صائب، تصوير الفيلم في أجواء قارسة البرودة بصورة لا توصف. ولهذا أكثر من دلالة، فالثلج الذي يهطل من دون توقف منذ بداية الفيلم يعوق البشر الأصحاء عن السير الطبيعي، ويزيد من قسوتهم وغلاظتهم وعزلتهم. عملت أيكا فترة من الوقت في إزالة الثلج عن الشوارع. لكن الصقيع واعتلالها الجسدي حالا معًا دون قيامها بالعمل، فطُردت. استعانت بالثلج، الذي تجمعه من الشوارع، كي تضعه بين ساقيها بهدف إيقاف النزيف، لكن من دون فائدة.



بعد نوبة نزيف حادّ، تدخل مرحاض إحدى العيادات البيطرية. هناك، تُشفِق عليها عاملة تنظيفات، لكن شفقتها متأتية من اكتشاف أيكا أن العاملة تجلب ابنها سرًا إلى العيادة، وتُخفيه بين أدوات التنظيف. تطلب منها أيكا، كما طلبت من غيرها، بعض المال، فتُخبرها العاملة أنه بإمكانها أن تحلّ محلها لبضعة أيام حتى تعود من إجازتها الطارئة، بذلك تحصل على مال مضمون. رغم المرض، تقوم أيكا بأعمال التنظيف للحيوانات الأليفة، وتطلب من الطبيب بعض المال، لكنه ينهرها ويُخبرها بأنه لا يعرفها بتاتًا، ويأمرها بمواصلة العمل.

الخيط المتعلّق بتفصيلة العيادة البيطرية بالغ القوة في سياق حبكة الفيلم. ففي العيادة، تُشاهد أيكا صنفًا آخر من البشر يعيشون حياة مُغايرة، وينصبّ اهتمامهم كلّه على حيواناتهم الأليفة. هناك أيضًا مشهد مدّته طويلة يُصوِّر كلبةً تُرضِع جِرائها من جهة نظر أيكا، التي تتذكّر رضيعها المتروك قبل أيام قليلة في المستشفى. لكن التَذكُّر غير نابعٍ من الإحساس بالأمومة، فقرارها منذ البداية التخلّي عنه. لاحقًا، يتّضح أن الرضيع سيكون "طوق نجاة أخيرا" لها بعد وصول أفراد عصابة التهريب إليها، الذين يهدّدونها بسرقة أعضائها وقتلها. تُقرّر بيعهم الرضيع تسديدًا لديونها، بعد اعترافها لهم باغتصابها أثناء رحلتها إلى روسيا، وأنه لا رغبة لديها في الاحتفاظ به.

مع الدقائق الأولى لـ"أيكا"، يظهر مدى مأساويته الفادحة، التي تقرّبه ـ من دون جدل ـ من الميلودرامية. لكن هذه الأخيرة غير فجّةٍ وغير ممجوجة أو مُنفِّرة. فالفيلم نموذجٌ معاصر، ونادرٌ سينمائيًا في كيفية صناعة ميلودراما رفعية الطراز. هذا عائدٌ إلى أسباب عديدة: السيناريو البارع في رسم التفاصيل والشخصية وظروفها القاهرة وقسوة المُجتمع؛ والكشف عن التفاصيل المأساوية كلّها بشكلٍ تدريجي، وفي الوقت المناسب؛

والكيفية المعتَمَدة في تقديم القصة وتطويرها؛ بالإضافة إلى توريط المشاهدين في الأحداث المُتلاحقة للبطلة. هناك أيضًا اختيار سيرغي دفورتسفوي فتاةً بسيطة للغاية ـ جمالها عادي، ويسهل التعاطف معها ـ تألّقت في التعبير عن محنتها بقسمات وجهها وانفعالاتها من دون أية مبالغة.

الجانب الأكبر في قوّة الفيلم، بالإضافة إلى بطلته، كامنٌ في التصوير (أبدعت فيه البولندية يولنتا ديليفسكا)، الذي غلبت عليه التسجيلية في أجزاء عديدة منه. ذلك أن معظم الكادرات "لقطات قريبة" من وجه سامال إسْلياموفا، التي نادرًا ما تُفارق الشاشة، ومع ذلك لا يُمَلّ من رؤية وجهها، ولا تُسَبِّبُ تلك اللقطات أي إزعاج، نظرًا إلى الاستغراق التام في القصّة ومصداقية الأداء. مَشاهِد عديدة، خاصة الداخلية منها، يغلب عليها الظلام أو التصوير بدرجة داكنة من اللون البني، إمعانًا في إبراز الفقر والبؤس؛ بينما يغلب على التصوير الخارجي الإضاءة الطبيعية أو النهارية. هذا التعارض بين الداكن والفاتح أبرز بجلاء مدى قسوة البيئة، ومنح المُشاهِد القدرة ـ من حين إلى آخر ـ على التقاط بعض أنفاسه، لفرط تلاحق الأحداث، وتَعَدُّد المَشَاهِد المُظلمة.

في "أيكا"، يُوجِّه سيرغي دفورتسفوي ـ بصفته مخرجًا كازاخستانيًا روسيًا ـ إدانة كاملة وصريحة لروسيا كنظامٍ سياسي غارق في الفساد والرشوة والجريمة المنظّمة، وللمجتمع الروسي الموصوم بقدر من العنصرية والاستغلال وانعدام الرحمة. من جهة أخرى، طرح المُخرج أسئلة وجودية وأخلاقية، بعضها مُتعلّق بمدى قوّة الحياة أو سطوة الطبيعة، وكيفية تأثيرهما وتغييرهما لمصائر البشر. وأهم تلك الأسئلة يتناول الغرائز البشرية، وهي هنا غريزة الأمومة، واستحالة الهروب منها، بصرف النظر عن الأسباب وقسوة الحياة. هذا يظهر بعد المشهد الختامي المفتوح على أكثر من نهاية وتساؤل: أيكا مع رضيعها خارج المستشفى تنتظر وصول أفراد العصابة. الطفل يبكي بحرارة. تختلي به بعيدًا عن العيون. هل أرضعته أم لا؟ وإن حدث، هل سَتُسَلِّمُه لهم، أم أنها ستحتفظ به؟

المساهمون