"شجرة الكمثرى البرية" لجيلان: عمق أدبي

"شجرة الكمثرى البرية" لجيلان: عمق أدبي

13 يونيو 2018
من "شجرة الكمثرى البرّية" لجيلان (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
عقب عرض فيلم "شجرة الكمثرى البرية" في المُسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي، توقّع كثيرون فوزه بجائزة "السعفة الذهبية"، فينضم مخرجه نوري بيلج جيلان (1959) إلى قائمة المخرجين الحاصلين على الجائزة الأولى هذه أكثر من مرة. لكن لجنة التحكيم، برئاسة الأسترالية كايت بلانشيت، خيَّبت الآمال، إذْ لم ينل الفيلم ومخرجه أي جائزة، رغم جدارته واستحقاقه جائزة واحدة على الأقل، نظرًا إلى مستواه الفني الرفيع. 

كما في أعمال كثيرة سابقة له، تحضر الروح الأدبية بشدّة في جديد نوري بيلج جيلان. المخرج غير مُتكلّف نهائيًا في علاقته بالأدب، إذْ يتضح ـ مع كلّ جديد له ـ الارتباط الشديد لأعماله به. هو نفسه لا يتبرّأ من هذه العلاقة، ومن تأثّره بأنطون تشيخوف. في "شجرة الكُمثرى البرية"، يتجلّى تأثّره به بوضوح وصراحة، إذ إن بطله سنان (أيدين دوجو ديميركول)، الروائي الناشئ، يُحاول شقّ طريقه الأدبي، وطبع أول أعماله. ورغم هذا التناول الصريح، لم يطغَ الأدبيّ على السينمائيّ. فجيلان حرفيّ في المزج بين الأدبيّ والتشكيليّ والسينمائي. إنه مُخرج يُفكّر ويكتب أدبيًا، ويتخيّل بصريًا، ثم يُبدع ويُنفِّذ سينمائيًا.

بخلاف التأثير التشيخوفي على أعماله، البارز في حوار فيلمه الأخير على نحو لافت، يُمكن التأكيد على أن حبكة "شجرة الكمثرى البرية" جنحت كثيرًا نحو أعمال فيودور دوستويفسكي، نظرًا إلى العلاقة القائمة بين سنان ووالده، والقريبة من التكوين البنائي لـ"الإخوة كرمازوف". أما شخصية سنان بحدّ ذاتها، فتستدعي إلى الذهن إحدى الروايات الصغيرة والمبكرة لدوستويفسكي، "نيتوشكا نيزفانوفا"، وتحديدًا شخصية زوج الأم يافيموف، الذي يُعاني عقدة نقص مُدَمِّرة، مَرَدّها بالأساس شعوره بأنه أعظم عازف كمان، وإدراكه لاحقًا أنه لا شيء. يستدعي سنان تلك الشخصية بكل عُمقها الأدبي، وطموحاتها ونرجسيتها وانكساراتها وخيباتها. وعلى هذا الوتر، ينسج جيلان فيلمه، وفي ذهنه مقولة دوستويفسكي في رسائله: "أفضل طريقة لسحق إنسان وتعذيبه بوحشية، إعطاء عمله خاصية انعدام الجدوى إلى حدّ العبث".

هذا هو الموضوع الأكثر هيمنة على "شجرة الكُمثرى البرية": انعدام الجدوى إلى حدّ العبث. طبعًا ليست هناك لحظات صراع درامية كبرى، بل انتفاء المآسي والفواجع وانعدام أي ميلودرامية، رغم ما يتّقد تحت السطح من فوران هائل يجيش في صدور الشخصيات الأساسية، وعلى رأسها سنان، المتخرِّج حديثًا من "كلية الدراسات الأدبية"، والعائد ـ في بداية الفيلم ـ إلى بلدته الريفية "تشان"، حيث تعيش أسرته.



في الفيلم، أيضًا، تيمات عديدة ومعروفة عند جيلان: التوترات الأسرية، والتناقض بين العادات الريفية والحضرية، والصدق مع النفس والآخرين، وشقّ الفرد لمساره في الحياة، ومعرفة المرء ما يريده ومدى صوابيته وتحمل مسؤوليته. بالإضافة إلى مُشكلات وجودية واجتماعية ودينية وسياسية. هذه المفردات كلّها وغيرها أيضًا، تناولها "شجرة الكمثرى البرية" بعمق، وتطرّق لها الحوار بتفصيلٍ دقيق، لكن من دون تحذلق أو تثاقف أو إثقال أو تعقيدٍ على المُشاهِد، بل بضربات فرشاة مُجرّدة هنا وهناك من فنان مُتمكّن. أصاب جيلان أهدافه بكلّ سحر وذكاء، وإنْ لم تخلُ ضرباته من نبرات ضمنية مُحمّلة بالسخرية المريرة، وربما بالتهكُّم الجارح.

يأمل سنان في جمع ما يكفي من المال لنشر كتابه الأول، الذي يجمع بين المقالات والقصص القصيرة. في الحقيقة، هو نفسه لا يعرف كُنه الكتاب بالضبط، إذْ يقول عنه: "أرغب في كتابة ميتا ـ رواية ذاتية غريبة". أي أنه يجمع بين أكثر من نوع أدبي: الرواية الذاتية، والرواية الغرائبية، والميتا ـ رواية التي لا تستند ـ من بدايتها إلى نهايتها ـ على الخيال، بل تَردّ القارئ إلى الواقع أو المؤلّف، أو إلى موضوع خارج السياق، ثم تُعيدُه مجدّدًا إلى الأجواء أو السياق؛ وغير هذا من ضروب الميتا ـ رواية أو الميتا ـ مسرح، كروايتي "لو أن مسافرًا في ليلة شتاء" للإيطالي إيتالو كالفينو و"مدينة الزجاج" للأميركي بول أوستر، أو مسرحية "ست شخصيات تبحث عن مؤلف" للإيطالي لويجي بيرانديللو. المُثير للانتباه أن العمل ـ الجامع هذه الأنواع كلّها، بالإضافة إلى المقالة والقصة القصيرة، الذي يُدشِّن به سنان انطلاقته الأدبية متمنّيًا لها النجاح ـ مُستوحى من كراهيته المُضمرة لمنطقته وسُكانها.

مُشكلة سنان لا تقتصر على طموحه الأدبي فقط، أو على موهبته أو عدمها، أو على افتقاره للمال اللازم لنشر كتابه الأول، أو على ماهية الكتاب. مُشكلته الأساسية كامنةٌ في شخصيته بحدّ ذاتها، إذْ أنها بالغة التركيب والتعقيد، وغير مُتصالحة مع الأسرة والمجتمع، ولا مع نفسها أساسًا. شخصية تائهة وضائعة، يزيد من عُمق ضياعها علاقتها الشائكة بإدريس (مراد سمشير)، مُدمن القمار والغارق في الديون، الذي أفقر أسرته (زوجته وابنته معتادتان على الانقطاع المُستمر للكهرباء لعدم دفع الفواتير، وعلى الحاجة الدائمة إلى الطعام في المنزل)، والحالم بوهم البئر في بلدتهم. تلك العلاقة المُلتبسة انعكاسية، وإنْ على نحو غير واضح. اللغز فيها يكمن في التكهن بأي واحد منهما انعكاس لعالم الآخر، أو بمن صار قرينًا للآخر وعالمه. فهل أدرك الأب باكرًا أن انهيار عالمه سينعكس على مُستقبل سنان وحياته؟ أم أن سنان هو من أدرك أنه صورة والده، وأنه مُنزلق لا محالة إلى المصير نفسه، رغم مُحاولاته وطموحاته؟

بدءًا من الأحاديث اليومية العادية، وانتقالاً إلى الكلام الأخلاقي والديني والفلسفي، فإن "شجرة الكُمثرى البرية" درس شديد البلاغة في كيفية رسم الشخصيات وأبعادها النفسية. لا الشخصيات الرئيسية فقط، بل الثانوية أيضًا. ولأن نوري بيلج جيلان مُولع بالحوار وكتابته، وهو على قدر بالغ التمكُّن من كتابته، جاء حوار فيلمه درسًا في كيفية صوغ مُفردات الحوار، أو وضع الجُمل الحوارية على ألسنة الشخصيات. علمًا انه أكسب الشخصيات الثانوية أيضًا حوارًا عميقًا وذا مصداقية، إلى درجة ارتقائها إلى مرتبة الشخصيات الرئيسية.

كما أنّ الفيلم برمّته درسٌ سينمائيّ فيما يتعلّق بكيفية تكوين أو تشكيل الكادر السينمائي. من الشائع القول إنه يسهل التحكّم في الفيلم عامة وبتكويناته خاصة، إن تكن غالبية مَشاهِده مُصَوَّرة في الاستديو؛ في حين أن المُعضلة الكبرى كامنةٌ في التصوير الخارجي، أي تحدّي الطبيعة. في "شجرة الكُمثرى البرية"، يصعب كثيرًا لمس الفارق بين التصويرين الداخلي والخارجي وتكويناتهما. فالإحكام والإبداع والجمال أمورٌ سائدة ومُشتركة بينهما. هذا من الدروس البليغة لنوري بيلج جيلان، بالإضافة إلى دروسٍ أخرى تظهر في سياق الفيلم، ومنها مثلاً أنه رغم طول مدّته (188 دقيقة) فهو ليس بطيئًا ولا مُملاًّ أبدًا.



والدرس الأكبر مرتبطٌ أساسًا بكلّ ما هو بصريّ. لذلك، تمّ اعتماد وصف تكوين الكادر بـ"التشكيلي". إذْ يندر جدًا أن تجد في كادر خارجي أو داخلي خللاً ما، أو انتفاءً لجمالية تكوين معيّن، أو انعدام تكوينٍ لافت للانتباه. تستوي في ذلك مشاهد الصيف، حيث يغلب التصوير أثناء الشفق، ومشاهد الشتاء، حيث البرد القارص وهطول الثلج وسيادة السُحب الرمادية الداكنة، أو توزيع الإضاءة وثراء الألوان في المَشاهِد الداخلية.

هذه الكادرات تُعتَبر فعليًا لوحات فنية لا تقلُ جمالاً عما أبدعه فنانون انطباعيون تحديدًا، كإدوارد مانيه وكلود مونيه وفان غوغ وبول سيزان. مع التكوينات التشكيلية للفيلم، يكاد المُشاهد يلمس على الشاشة عناصر الطبيعة كلّها، بألوانها المُختلفة: أوراقٌ وأشجارٌ ورياحٌ وسُحبٌ وثلوجٌ وضوء. تنبهر العين لفرط الجمال المرصود والتناسق المُحكم. كأن جيلان يتحكَّم بالطبيعة، ويُطَوِّعُها كما يشاء. إلى ذلك، لا تغفل العين عن مدى تناسق أزياء الشخصيات، وخلقها لسيمفونية من الاتساق اللونيّ والتناغم البصري مع ما حولها في الكادرات.

يصعب على المُشَاهِد ـ مع بعض التحفّظ على طول مدّة الفيلم، وبعض الثرثرة أحيانًا ـ أن تفارقه شخصية سنان المُتضخّمة الذات والتائهة والمُتخبّطة؛ وأيضًا شخصية الأب بإحباطها وانسحاقها وعدميتها. كما يصعب نسيان مواقف وجُمل حوارية استطرادية. وقبل هذا كله، هناك الجماليات المشهدية، التي تفنّن السينمائي التركي في تكوينها مع مُصوّره الأثير جوخان تيريياكي.

أمثلةٌ على ذلك: مشهد الحبيبة الخاضعة لمؤسّسة الزواج التقليدية، والقُبلة المتحوّلة إلى عضّة لشفتيّ الحبيب (سنان). تَعَرُّف سنان على الأديب، ومشهد مُلاحقته له بعد انقلاب المُحادثة بينهما كلّيًا، من دون أن تخلو من أسئلة أدبية وفلسفية عميقة. مَشاهد الضباب الكثيف وهطول الثلج، بجمالياتها المتنوعة. المشاهد المُتخيّلة والأحلام، كمشهد طفلٍ يُغطّيه النمل الذي يسير على وجهه ويدخل فمه وأنفه، أو مشهد الانتحار على غُصن شجرة الكُمثرى. هناك أيضًا أحد أقوى مشاهد الفيلم وسينما جيلان كلّها، حيث البئر وتساقط الثلوج وحلم الأب بالانتحار، وهو حلم مُتخيّل لسنان. هذه كلّها وغيرها ستبقى طويلاً في الذاكرة، لروعتها وفنّيتها.

المساهمون