"بلاك كلانزمان" لسبايك لي: صرخة ضد العنصرية

"بلاك كلانزمان" لسبايك لي: صرخة ضد العنصرية

23 مايو 2018
سبايك لي: الجائزة الكبرى في "كانّ" (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
نال فيلم "بلاك كلانزمان" (BlacKkKlansman) للأميركي سبايك لي جائزة "لجنة التحكيم الكبرى"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، بعد 5 مشاركات له في مُسابقات مختلفة للمهرجان، تحديدًا منذ عام 1986، من دون حصول أفلامه المُشاركة كلها على جوائز رئيسية. في "بلاك كلانزمان"، يدُقّ سبايك لي (1957) ناقوس الخطر بشدّة ضد العنصرية، ويُبرز تأثيرها على المُجتمع الأميركي. 
كعادته، يُقدّم سبايك لي خلطة لا يجيد سِواه صُنعها، تجمع بين الأفلام الهوليوودية الترفيهية ـ المُتقنة الصُنعة للغاية، في الحبكة والسيناريو والحوار والأداء والإخراج ـ والفيلم السياسي، بكل ما للكلمة من معنى، وما يحمله من مُباشرة أو خطابية؛ والأهمّ كامنٌ في "الرسالة الصارخة" للفيلم، وحرص المخرج على إيصالها إلى الجمهور. فهو أراد أن تكون صرخته هذه المرة بالغة القوة وأكثر مُباشرة من قبل، ضدّ ما يغلي تحت السطح الآن في المُجتمع الأميركي، خصوصًا مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ونبرته العدائية العُنصرية الصريحة.

نظرًا إلى حِسِّه الفني المُرهف، ووعيه السياسي الراسخ، وإيمانه بالدفاع عن قضية السود ومواجهة العنصرية في أميركا خاصّة، كان من المحتم على سبايك لي العودة مُجدّدًا إلى النبرة الزاعقة، وصيحة الاستيقاظ ضد ما ينجرف إليه المُجتمع الأميركي المُعاصر. صحيحٌ أنه طرح ـ في أفلام كثيرة له ـ قضية السود، أو الأفروأميركيين، وما تعرّضوا له على مرّ التاريخ، وفي السنوات القليلة الماضية؛ لكن رسالة "بلاك كلانزمان" مُغايرة، فهي هنا غير مقتصرة على مسألة اللون أو العرق، لأن حسّ سبايك لي يُشعره بأن هناك ما هو أعمق وأخطر من هذا سينزلق إليه المُجتمع الأميركي لو استمرّت الأوضاع على هذه الحال، وازدادت النبرة العنصرية، وكراهية كلّ ما هو مُختلف.

تدور أحداث الفيلم، المأخوذ عن قصة حقيقية وقعت أحداثها عام 1979، في ولاية "كولورادو سبرينغز"، عن أول شرطي أسود يلتحق بالخدمة، رون ستالوورث (جون ديفيد واشنطن)، الذي يُبدي رغبته في العمل كشرطي سري، بدلاً من العمل المكتبي في قسم الأرشيف. ذات يوم، يلفت انتباهه إعلانٌ صغير في إحدى الصحف، يُشجِّع الأفراد على الانضمام إلى مُنظمة "كو كلوكس كلان"، فيُبادر إلى الاتصال بها، والتواصل مع أحد أفرادها. ثم، تدريجيًا، يُقنع القائمين على فرعها المحلي في الولاية بمدى صدقه ورغبته الجارفة في الانضمام إليها لمُحاربة السود، وجعل أميركا بيضاء خالصة من دون مُلوّنين أو أعراق أخرى.

شيئًا فشيئًا، ينجح رون في إقناع المُنظمة بضمِّه إليها، بمساعدة زميله في العمل فْلِيب زيمرمان (آدم درايفر)، الذي يُقابل بدلاً منه أعضاء المُنظمة، بين حين وآخر. بينما يقتصر دوره على تواصل هاتفي مع أبرز قياداتها ديفيد ديوك (توفر غريس). سريعًا، يتغلّب الثُنائي على مُعضلات كثيرة تواجههما، في ما يتعلّق بهذا التخفي، وأبرزها: التناقض بين صوتيهما. فصوت رون عبر الهاتف مُختلف بالتأكيد عن صوت فْلِيب في الواقع.



لا يُلخِّص "بلاك كلانزمان" (BlacKkKlansman) ـ صاغ سبايك لي العنوان في كلمة واحدة، وهي تعني "رجل منظّمة كو كلوكس كلان الأسود" ـ الاضطهاد العنصري الذي يعانيه السود في أميركا، بل يوقظ الوعي فيما يتعلق بالعنصرية في أميركا عامة، ويطرح قضية مُتعلّقة بكيف ينبغي على الجميع التصدّي لها. في الفيلم، يتعرَّض البطل، وهو شرطي أميركي، للاضطهاد على يد زميل له داخل قسم الشرطة نفسه. ثم إن العنصرية غير مقتصرة على المنظمة وأعضائها أو أتباعها أو مشايعيها. فالفيلم، الذي تدور أحداثه في السبعينيات الفائتة، يربط الماضي بالحاضر بإبراز أن الماضي لا يختلف كثيرًا عن الحاضر، وأنه سيتفاقم في المستقبل.

تتميّز أفلام سبايك لي، إنْ بعناوينها أو حواراتها، بأنها ضاربة بعمق في اللغة العامية الأميركية، وفي لغة الأفروأميركيين، ونطقهم الخاص للّغة الإنكليزية. وفيما يتعلق بهذا الأمر، تلاعب سبايك لي وكُتَّاب السيناريو المشاركون معه (ديفيد رابينوفيتز وتشارلي واشتال وكيفن ويلموت، عن كتاب بالعنوان نفسه لرون ستالوورث) بكيفية نطق السود للحروف الإنكليزية، ونُطق الأميركي الأبيض لها، فقد اقتنع القيادي ديفيد ديوك بأن من يُحادثه هاتفيًا "أميركيٌّ خالص"، بفضل طريقة نُطقه الصحيح للحروف. في الفيلم، هناك تلاعب عميق وساخر، له خلفياته اللغوية في المُجتمع والثقافة الأميركية، لا سيما الأفروأميركية.

كما تلاعب سبايك لي بحوارات كثيرة لأغراض شتى، وأدخل تعديلات طفيفة لتُناسب خطاب الفيلم، وما يرغب في قوله. فمُنظمة "كو كلوكس كلان" العُنصرية السرية مُوجّهة أساسًا ضد السود في فترة إعادة البناء السابقة للحرب الأهلية، ولم تكن مُعادية لليهود أو السامية. بينما أفراد المُنظمة في الفيلم يكرهون اليهود، ويرتابون في أي اسم يهودي. ما يعني أن التطرّف القديم للمُنظمة اتسعت رقعته، وبات يشمل اللون والعرق أيضًا.



كالعادة، تتمتّع شخصيات الفيلم، كغيرها في أفلام سبايك لي، بجوانب مُسالمة وطيبة، إنْ كانت سوداء أو بيضاء. بينها شخصيات منخرطة في ممارسة الشرّ، أو تدعو إلى العنف. اتضح هذا في خطاب الزعيم السابق لـ"الفهود السود" ستوكلي كارمايكل/ كوامي تيور (كوراي هوكينز)، المُوجه ضد رجال الشرطة البيض، ووصفه إياهم بالخنازير، وتحريضه على حمل السلاح في مواجهتهم، والتخلّص منهم. لا يلعب سبايك لي على الحبلين، ولا يُمسك العصا من نصفها، فهذا كلّه من أدوات يستخدمها في أفلامه دائمًا: عرض الشيء ونقيضه، وإبراز الأضداد.

فيلم "بلاك كلانزمان" شديد الإمتاع، ومُضحك للغاية. لا يخلو من العمق الشديد، ولا من الغضب مما يحدث. يُنبِّه من مدى خطورة الوضع، خاصة أنه ينتهي بمشاهد تسجيلية لحادثة الدهس التي قام بها أحد المُتطرّفين من القوميين البيض، العام الماضي، في "شارلوتسفيل"، ضد مسيرة سلام مُناوئة للنازيين الجُدد وأعضاء "كو كلوكس كلان".

المساهمون