"السارقون" لهيروكازو كوريدا: مفهوم الأسرة

"السارقون" لهيروكازو كوريدا: مفهوم الأسرة

18 مايو 2018
من "السارقون" لهيروكازو كوريدا (الموقع الإلكتروني لمهرجان "كانّ")
+ الخط -
بعد عرض غالبية أفلام "المسابقة الرسمية"، في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كان" السينمائي الدولي، يمكن القول إن الفيلم الياباني "السارقون" (2018) لهيروكازو كوريدا يُعتبر، بالفعل، من أهمّ الأفلام وأقواها، لغاية الآن. ولا يُستبعد فوزه بجائزة من جوائز المهرجان، إنْ لم يُمنح "السعفة الذهبية". 

"السارقون" (العنوان الأصلي: "أسرة السرقة من المتاجر") عودة قوية للمخرج هيروكازو كوريدا: فهو تجاوز الإخفاق الملحوظ لفيلمه السابق "الجريمة الثالثة" (2017)، الذي انتقل فيه إلى عالم الجريمة والتحقيقات البوليسية. ورغم تناوله الموضوع بأسلوبه المُميّز، إلاّ أنّ غلبة الحوار والتحقيقات وجلسات القضاء والتداخل غير المفهوم للواقع والشخصيات أدّت كلّها إلى إفساد الفيلم، الذي تنافس على "الأسد الذهبي" لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" عام 2017.

والفيلم من أعمق أعمال الدراما الاجتماعية له في الأعوام الـ10 الأخيرة، وتحديدًا منذ فيلمه البديع "لا أحد يعرف" (2004)، و"لا يزال يمشي" (2008)، ثم فيلمه الإنساني البسيط "شقيقتنا الصغيرة" (2015)، المعروض في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان"، من دون حصوله على أية جائزة.

مُقارنة "السارقون" بغيره من أفلام هيروكازو كوريدا ـ بما فيها تلك الدرامية التي تناولت جوانب مُتعلّقة بالمجتمع الياباني، خاصة الأسرة ـ تصبّ في مصلحة فيلمه الأخير. فهو، كعادته، لم يكتف بطرحٍ مُختلف أو تناولٍ مُغاير للقضايا أو الأسئلة التي يتناولها. صحيحٌ أنها، في النهاية، مندرجة في إطار الدراما الاجتماعية، لكن لا يمكن التوقف عند هذا التوصيف المُخلّ لتلك الأفلام.

من الخطأ وصف "السارقون" بأنه مُجرّد دراما عن الظروف المعيشية القاسية والعوامل الاقتصادية الطاحنة في اليابان، وتأثير هذا على المُجتمع الكبير وصورته المُصغّرة، المُتمثلة في الأسرة بأفرادها جميعهم. كما أنه يصعب تناوله كانتقاد بالغ الصدق والجرأة والقسوة ضد المُؤسَّسات الرسمية للدولة اليابانية، لإخفاقها الواضح والمُدمِّر (وليس فقط لتجاهلها) لتلك الفئات المُهمَّشة، التي تعيش في الدرك الأسفل من المجتمع، ولا تدري المُؤسّسات عنها أي شيء. ذلك أن هيروكازو كوريدا تجاوز الانتقاد أو الهجوم إلى إعادة صوغ مفاهيم أو مُصطلحات عديدة راسخة، ليس فقط في المجتمع الياباني، بل أيضًا بصفة عامة، كالمعنى الذي استقرّ عليه المفهوم العام للأسرة، في كلّ زمان ومكان: فهل من الضروري أن ينطبق مفهوم الأسرة على المعنى البيولوجي، أي الأب والأم والأشقاء؛ أم أنه قادرٌ على تجاوز هذا إلى ما هو أكبر وأعمق، وإلى ما هو خاضع لاختيار الفرد الانتماء إلى أسرة بعينها، وإنْ تألّفت الأسرة من اللصوص؟

في 121 دقيقة، سرد هيروكازو كوريدا قصّة بالغة الروعة والجدّية، وإن كانت بالغة القسوة والمرارة أيضًا. الروعة والجدّية لا ترجعان إلى خيطه الرئيسي، الذي يتناول استغلال الأطفال في أعمال السرقة، وأغلبها سرقات صغيرة لمتاجر ومحلات. هذا موضوع تناوله الأدب والسينما منذ زمن بعيد، حتى السينما العربية. الأمر مُتعلّق بكيفية استغلال كوريدا هذا الخيط وتطويره وتعميقه، وإثراء هذه التيمة السينمائية، إلى درجة يصل معها الأمر إلى حزنٍ شديد على فراق تلك الأسرة، وتشتّت شمل أفرادها. وذلك على خلاف الأعمال الأخرى التي تناولت الموضوع هذا.

لا جدال في أن أوسامو شيباتا (ليلي فرانكي) مُجرم بكل معنى الكلمة. أخطأ في حقّ الصبي شوتا (جيو كايري) بتعليمه السرقة، واستخدامه للتغطية عليه في عمليات السطوّ. لم يقف في وجهه عندما بدأ يُعلّم الطفلة يوري (ميو ساساكي) السرقة والتغطية عليها. اكتفى فقط بإخباره أنها لا تزال صغيرة. لكن، من ناحية أخرى، فإن شيباتا بالغ الحنان والرقة تجاه الصبي والطفلة. يتمنى لو يُناديه شوتا بكلمة "أبي". يرقّ قلبه عندما يرى يوري ترتجف من البرد، وفي جسدها آثار جروح قديمة جراء التعذيب، فيضمّها إلى أسرته، التي بالكاد تسدّ رمقها.
في البداية، ترفض نوبويو (ساكورا أندو)، زوجة شيباتا، ضمّ الطفلة إلى الأسرة، رغم عقمها. لكن التواصل الحميم بينها وبين الطفلة يدبّ تدريجيًا، وتكون هي "الجدة"، كما يُطلقون عليها، بمثابة أم لها. "الجدة" الطاعنة في السن تمارس بدورها الغشّ والاحتيال والنصب في أكثر من طريقة. يتضح أن شيباتا ونوبويو ليسا متزوّجين رسميًا، وأن لهما ابنة أخرى تُدعى آكي (مايو ماتسوكا)، وهي طالبة جامعية، تصرف على نفسها عن طريق العمل في محلات الاستعراض، مُحافظة على عدم انزلاقها في عالم الدعارة. هذه أسرة تبدو، لوهلة أولى، باردة، إذْ يكمن القاسم المُشترك بين أفرادها في الحديث عن المشاكل المالية والعمل والطعام والتدفئة إلخ. لكن، مع تطوّر الفيلم، ينكشف مدى انصهارها وتجانسها وعمق علاقات أفرادها بعضهم مع البعض، وتشابكها.

بسبب تغطيته سرقة بسيطة تقوم بها الطفلة، يضطر شوتا إلى زجّ نفسه في مُشكلة أدّت، أخيرًا، إلى هروبه، ثم قفزه من فوق أحد الجسور. هنا، تكتشف الشرطة حقيقته، وتدرك ما يدور منذ أعوام في ذاك المنزل البسيط، وبين أفراده. تُلقي الشرطة القبض على شيباتا ونوبويو، وتودع شوتا في الإصلاحية، وتُعيد الطفلة إلى والدتها القاسية. يُستخرج جثمان "الجدة"، إذْ دُفنت تحت المنزل بعد وفاتها المفاجئة، نظرًا إلى تعقيدات قانونية كثيرة تحول دون التصريح بدفن رسمي لها. يخرج شيباتا سريعًا، وتبقى نوبويو أعوامًا عديدة، لارتكابها جريمة قتل بحقّ زوجها السابق.

عمليًا ورسميًا، أعادت الشرطة الأمور إلى نصابها مرة ثانية. لكن للواقع الملموس كلمته هنا. فالواضح أن هذه الأسرة السعيدة، رغم قسوة وفظاعة كلّ شيء حولها، تبدّد شملها إلى الأبد. تحطّم أفرادها، وصاروا أكثر تعاسة عن ذي قبل، وباتوا أكثر وحدة ويُتمًا. سعادة أفرادها، بين حين وآخر، خاصة في مشهد ذهابهم إلى البحر والاستمتاع على الشاطئ معًا، لن تتكرّر ثانية في حياة أي واحد منهم. لن يحظ أي واحد منهم بأسرة ينتمي إليها ويعيش في كنفها. قبل ذلك، كانوا يعيشون في سعادة ودفء، وبتراض ضمني تام بينهم. الآن، باتوا مُجبرين على الانفصال.

هذا كلّه يطرح أسئلة كثيرة عن التعاضد والعطاء والأنانية، لكن أساسًا، عن معنى الأسرة والأمومة والأبوة. فهل يقتصر المعنى على البيولوجي، أم أنه يشتمل على أكثر من هذا، كالروابط بين أفراد الأسرة، القانونية أو البيولوجية؟ هذا كلّه نسجه سيناريو الفيلم ببراعة مُدهشة، وعلى نحو تدريجي مُقنع للغاية، تجنّب معه أي ميلودرامية أو سقطات أو ثغرات أو نبرة زاعقة. الشخصيات كلها، حتى الطفلة، شديدة الثراء والعمق والتميز، وستبقى طويلاً في الذاكرة. أما الاختيار المُذهِل للمُمثلين، والإدارة الإخراجية لهم، وتنفيذ مشاهد كثيرة من جانب هيروكازو كوريدا، فمهمّة للغاية.

المساهمون