"مدينة الشمس" لراتي أونلي: رفض الاختفاء

"مدينة الشمس" لراتي أونلي: رفض الاختفاء

11 مايو 2018
من "مدينة الشمس" لراتي أونلي (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
كانت بلدة "شياتورا" (غرب جورجيا) إحدى القلاع الصناعية العملاقة أثناء الفترة الشيوعية، ومن أهمّ المدن التي اعتمد عليها الاتحاد السوفياتي السابق في ما يتعلّق بأعمال التعدين، خاصة استخراج "المنغانيز"، وكانت أكثر مدن العالم إنتاجًا له. ومن خلال الفيلم الوثائقي البديع، بصريًا وإيقاعيًا، "مدينة الشمس" (إنتاج جورجي ـ قطري ـ أميركي ـ هولندي، 2017) للجورجي راتي أونلي (1977)، يتضح مدى غنى المدينة وثرائها السابقَين، مُقارنة بوضعها الراهن.

بعد لقطات عُلوية خلّابة للمدينة والجبال المُحيطة بها، يعود أونلي إلى الأرض لكشف حقيقة ذلك الجمال المرصود من أعلى. لاحقًا، تظهر المدينة ميتة، أو بالأحرى في حالة احتضار. لكن، بين المباني الخاوية والكتل الخرسانية المهجورة والشوارع الشبحية، تُلمَح آثار حياةٍ "تَدِبّ" هنا وهناك في أرجائها، رغم قلة عدد سُكانها، الذين لا يزالون مُتَمسِّكين بالبقاء فيها حتى آخر نَفَس لهم. هؤلاء لا يحدوهم الأمل في انتعاش الحياة في المدينة مجدَّدًا، لكنهم يأبون مُغادرتها، ويرفضون الاختفاء، إلا بعد انتفاء كل سُبل مُمكنة للعيش في تلك البُقعة من الأرض، التي كانت منطقة جذب قبل أن تُمسي منطقة طرد.

من مشهد إلى آخر، وعبر لقطات ذات أبعاد بؤرية مُتفاوتة، وأحجام مُتباينة، وأطوال زمنية مُختلفة، نَسَجَ راتي أونلي فيلمه عن "شياتورا"، أو "مدينة الشمس" كما يسمّيها هو، رغم أن ليس هناك أيّ سطوع للشمس. للتناقض بين العنوان والموضوع دلالاته الواضحة. فهو قدَّمَ بعض سكان المدينة داخل بقايا المناجم، أو في المدرسة أو الشوارع أو المباني الخاوية. لوهلة أولى، تبدو أجواء المدينة مُحزنة وقاتمة، ولا تدعو إلى التفاؤل إطلاقًا. هذا يدعو إلى التساؤل عن سبب عدم اهتمام البعض ـ في سعيه إلى مُراكمة الأموال، باسم الشيوعية أو الرسمالية أو أي مسمّى آخر ـ بالناس وبحياتهم ومستقبلهم. مثلاً، لم يؤخذ في الحسبان مصير سُكان المدينة عندما تُغلق المناجم بعد نضوبها.

المُثير للانتباه أكثر أن غبار معدن "المنغانيز"، الذي يُعتَبر من أهمّ المكونات الرئيسية في صناعة الصلب، شديد السُمِّية، ويُؤدّي إلى كوارث خطرة على صحّة الإنسان، ليس أقلّها إصابته بمرض "باركنسون". مع ذلك، فإنّ الاحتياطات الأمنية والاستعدادات الطبية في المدينة تعود إلى نحو نصف قرن.

لكي يُحكِمَ راتي أونلي فيلمه أكثر، ويُكسب حبكته العمق المطلوب، اختار 4 شخصيات يُتابع مساراتها، ويتنقّل بينها بسلاسة عبر مُونتاج تقنية التوازي. أول هؤلاء عامل مناجم يُدعى أرخيل، يهوى المسرح، ويتدرّب يوميًا على أداء أحد الأدوار. في البداية، يبقى كثيرًا تحت الأرض، داخل المنجم مع غيره من العمال مجهولي المصير لاحقًا. ثم يبدأ الاقتراب منه تدريجيًا للدخول إلى عالمه، والاطّلاع على مدى ولعه بالمسرح. صحيح أنه، في النهاية، مُجرّد مسرح هواة، لكن يُمكن اعتباره شكلاً من أشكال المُقاومة ضد حياة آفلة.

الثاني مُدَرِّس الموسيقى زوراب، الذي يبذل جهدًا كبيرًا، رغم الظروف الصعبة، لتدريب الأطفال على التعامل مع آلات مُوسيقية، كي يصبحوا عازفين في المُستقبل. في أوقات فراغه، يذهب المُدرِّس المُرهف الحس والأنامل إلى المباني الشاهقة، ذات الكُتل الخرسانية الضخمة، كخزّانات المياه، ليهدمها بمطرقته. بعد تفتيت الكُتل الخرسانية، يستخرج أسياخ الحديد لبيعها، بهدف تحقيق مكسبٍ مالي إضافي. لكنه يُواجه صعوبة لا يعرف كيفية التغلب عليها، تتمثّل في سرقة أسياخ الحديد كُلّما جمعها.

هناك أيضًا فتاتان صغيرتان تعدوان يوميًا في مضمار سباق في ملعب مهجور وبائس. إنهما مريم وإيرينا. مع تَقَدُّم الفيلم، تُظهران طموحهما للمُشاركة في الأولمبياد المقبلة. لكن، رغم جُهدِهما في تدريبات شاقة، يرفض مُدَرِّبهما هذا الأمر، لأنهما تُعانيان سوء تغذية، ما يعني أن أيّ جهد إضافي لهما ربما يؤدّي إلى عواقب صحّية غير حميدة. فهما تتناولان يوميًا وجبة طعام واحدة فقط.

"مدينة الشمس" هو الفيلم الـ3 لراتي أونلي، بعد فيلمين قصيرين. رغم أنه بدأ العمل السينمائي قبل 7 أعوام، إلاّ أنه يكشف عن مدى تمكّنه من صُنعته السينمائية في فيلمه هذا. كلّ شيء مُحكَم للغاية: الإيقاع والمونتاج والموسيقى (للرائع أندريه ديرغتشيف، مؤلّف موسيقى غالبية أفلام الروسي أندره زفياغينتسيف).

لا مبالغة في القول إن كلّ لقطة، وكل "كادر"، وكل تنوّع بين لقطة عُلويّة أو مُقرَّبة، وكلّ توظيف للّقطات الطويلة والقصيرة، له دور مؤثّر في الفيلم، ووجوده غير مجاني أبدًا. لهذا كلّه، ورغم قتامة الفيلم، فإن المرء يستمتع، بصريًا على الأقلّ، بمُتابعة أحوال ناس المدينة في حياتهم اليومية البائسة، هم الذين، رغم ظروفهم المُحبطة، يُحاولون الاستمتاع بأبسط مُفردات الحياة: الدراسة أو الغناء أو العزف أو اللقاءات التي تحدث بين حين وآخر في أمسيات صاخبة.
هذا كلّه رصده راتي أونلي في فيلمه بكاميرا مُحايدة، لا تتدخل أبدًا ولا تلفت الانتباه، مكتفيةً بمتابعة الشخصيات في يومياتهم. لهذا الأسلوب الإخراجي أبلغ الأثر على جماليات "مدينة الشمس".

مع انتهاء فيلمه، يضع أونلي اقتباسًا يُلخِّص حالة هؤلاء الناس، ويُوضح أسباب صُنعِه إياه: "إنهم أغنياء لأنهم لا يُريدون شيئًا، فقراء لأنهم لا يملكون شيئًا. بالتالي، هم ليسوا عبيدًا للظروف، لكن الظروف هي التي تعمل لخدمتهم". اقتباس رائع، خاصة في جزئه الأول. لكن، أليسوا "عبيدًا"؟ وهل الظروف في خدمتهم فعلاً؟

المساهمون