تانيا صالح.. "تقاطُع" مع الموسيقى الإلكترونية

تانيا صالح.. "تقاطُع" مع الموسيقى الإلكترونية

29 ابريل 2018
نسمع في الألبوم نمط التلحين الذي اعتدناه للفنانة (فيسبوك)
+ الخط -
التحدّث عن فنان معاصر ينطوي على "ثقل" اللحظة الراهنة التي يجري الحديث أثناءها؛ أي الجماليّات الرائجة والشرعية التي تتمثل بـ "أسماء" هذا الفنان، أو ذاك، في المحيط الفني، والعلاقات التفاضلية التي تربط هذا أو ذاك بالمؤسّسات الثقافية والمهرجانات. فعلى الرغم من وجود قدرات إبداعية عند الفنّانين، إلّا أن هؤلاء موجودون بطبيعة الحال في عوالم اجتماعية تتضمّن ديناميّات لا تتعلّق فقط بالموسيقى ولا بمدى إبداع الفنان.

"الموسيقى المستقلّة" ليست مجرد دلالة قاموسية؛ فهي لا تعني فقط اختلافها القانوني عن الإنتاج الموسيقي التجاري الرائد، ولا تعني ضمانة أكبر لحرية الفنّان فقط، لكنها أيضًا ذات دلالة على إرادة الفنّان على تقديم نفسه في كونه حاملًا لثقافة غير مهيمنة. وفي حين يبدو أنّ مفردة "مستقل" هي مفردة مطلقة، إلا أنها ليست سوى كلمة تصنّف نوعًا محدّدًا من الموسيقى بصناعتها وسوقها وتوزيعها واستهلاكها.


تجربة تانيا صالح
على الرغم من أن تانيا صالح كانت وما زالت حتى الآن فنّانة مستقلّة، إلا أنه وبعد ثبات وجود جمهور لها، تغيّر نوع "استقلال" موسيقاها. فالألبومات الثلاث الأولى، أنتجتها صالح من دون وجود مؤسّساتي، ولكن مع فريق عمل من مصوّرين ومصمّمين وفنّانين ومنتجّين. أما "الاستقلال" في ألبوميها الأخيرين؛ فتضمّن مساهمات لعلامة التسجيل النروجية "Kirkelig Kulturverksted" ("ورشة عمل الكنيسة الثقافية") في إنتاج الألبوم.

في مرحلة "الاستقلال" غير المؤسّساتي، كانت صالح أصلًا موجودة في المكان الاجتماعي "الصح" أو المناسب الذي سمح لها، منذ الألبوم الأول، "تانيا صالح"، أن تتعاون موسيقيًّا مع عصام الحاج علي وشربل روحانا وزياد الرحباني ومع خبراء تصميم وتصوير. كان هناك في أعمالها، منذ البداية، قيم وجماليّات ميّزتها. وعلى الرغم من أن الجماليّات والقيم التي نستشفّها في أعمال صالح، قد تبدو شخصيّة وتخصّها وحدها، إلا أن كل هذه القيم والجماليّات تشترك فيها تانيا صالح مع فئة معيّنة من اللبنانيين واللبنانيات.

ومن بين هذه الجماليات والقيم التي نراها في أعمالها، لدينا الأنوثة والتحرّر اللذين لا تنفك صالح تعكسهما في صورتها المُقدَّمة فنّيًّا، كما هناك قيم سياسية مضادة للطائفية، ومناصرة للعلمانية. في أعمال صالح، لدينا الأسلوب اللبناني العامي كذلك الذي يدّعي الروح البلدية أو الشعبية. أما جمهور تانيا صالح؛ فهو على الأرجح من الشباب الذين ولدوا في نهاية الحرب الأهلية وبعدها، وهم من الطبقة الوسطى والعليا وذات المستوى التعليمي المتقدّم نسبيًا والنشأة المدينية، ويتشاركون معها في القيم التي تتناولها، فهم أكثر من "ورث" القيم التقدّمية من أهاليه؛ جيل السبعينيات من القرن الماضي. لقد أنتجت صالح من خلال أدوات التعبير التي تملكها، بشكل متعمّد وغير متعمّد، ما حدست أنه كان "منتَظرًا" منها أن تنتجه من قيم وجماليّات وموسيقى عند فئة الناس هي أكثر قربًا منهم بطبيعة الحال.

ولعلّ هذا ما أشار إليه، تقريبًا، الصحفي بيار أبي صعب في حلقة "بيت القصيد" التي بُثّت في 5 كانون الثاني/يناير 2016 على قناة "الميادين"، عندما قال عن تانيا صالح إنها تقع على "مفترق طرق بين جيلين... جيل الأغنية الملتزمة بالطريقة القديمة... وجيل ثاني هيي من رواده... […] هي بصوتها... وبكلماتها بتمثّل ضمير… للجيل الجديد اللي بعده مكمّل متل اللي قبله بس من دون أيديولوجيا".


ليس مستقلًّا تمامًا
آخر ألبومين لتانيا صالح، "شويّة صور" و"تقاطع"، كانا بإنتاج مشترك بينها وبين علامة التسجيل "مركزالكنيسة الثقافي"، إلا أن هناك فوارق أساسية بين هذين العملين، وتتمثّل بأن ألبوم "شوية صور" أثبت وجود جمهور يستمع لها فعليًّا. أما العمل الأخير، ألبوم "تقاطع"، فبرأينا أنه جاء بناءً على نجاح ألبوم "شوية صور" السابق؛ فلم يحتج تمويلًا جماهيريًا، لا بل إن ألبوم "تقاطع" يولّد الانطباع بـ "الارتقاء" عن الأعمال السابقة من خلال "إعلان انتمائه" للموسيقى الإلكترونية الأكثر ارتباطاً بالتكنولوجيا، والتي تبدو "الأكثر حداثة" بهذا المعنى. أَضف إلى أن الألبوم يحتوي تعاون مع أحد الفنّانين العرب الذين يتقدّمون ساحة الموسيقى الإلكترونية الأوروبية وهو خليل جدران (اسم مستعار)؛ فرد من مجموعة "حاجز 303".(checkpoint 303)

وفي حين أن علامة التسجيل "المستقلة" تعطي هامشًا كبيرًا من الحريّة التعبيرية للفنّان، إلا أن ذلك لا يعني طبعًا الحيادية المطلقة لخيارات الفنّان نفسه. فعندما تختار تانيا صالح أن تتعاون مع الموسيقي الإلكتروني التونسي خليل جدران؛ فهذا يعني أنّها تصبو، من جهة، للدخول إلى محيط فني من نوع آخر، أكثر تمايزًا عن الذي سبقه، حيث يتمايز الأسلوب الموسيقي الإلكتروني عن غيره وبالذات ما يسمى بـ "المستقل"، بأن متذوّقيه يتفرّدون باستماعهم له بالنسبة لباقي المستمعين الذين هم، في غالبيتهم، من مستمعي الموسيقى السمعية (acoustic) أو الإلكترونية التجارية أو الإلكترونية/السمعية التجارية. ومن جهة أخرى، فإن ألبوم "تقاطع" بما فيه من مزج موسيقي عابر للثقافات (كلمات عربية/موسيقى عربية مع موسيقى إلكترونية) يبدو أكثر جاذبية للمستمع الأوروبي، وبالذات عندما يقدّم نفسه على أنه جزء من مشروع "تحرّري" قادم من البلدان العربية.


موسيقى توليفية
نسمع في هذا الألبوم نمط التلحين الذي اعتدناه في أعمال تانيا صالح السابقة والذي هو غالبًا ما يكون عبارة عن جملةً أو بضع جمل صغيرة موجودة كالحلقة تنمو من دون إطالة، لتعود وتقفلها كما في أغانيها السابقة. أوضح مثالين هما "ما قلنا شي" و"رضا". وللمفارقة، امتازت ألحان عصام الحاج علي التي غنتها صالح عن الألحان التي ألّفتها هذه الأخيرة، بجمل موسيقية أكثر طولًا وبتعمّقها الهارمونيّ والجازيّ كما هو الأمر مثلًا في "خلصوا الدفاتر" و"هي لا تحبك أنت".

ومما نلاحظه في ألبوم "تقاطع" أن أغنيتي "كيف بروح" و"الشرق" تشتركان باحتوائهما على مقاطع من تسجيلات ذات إيحاء بالالتزام السياسي للأغنية، ففي "كيف بروح" نسمع  تسجيل لنشرة أخبار، وفي "الشرق" نسمع خطاب لجمال عبد الناصر. إن دمج تسجيلات تحمل دلالة سياسية أمر مألوف في أعمال مجموعة "حاجز 303" التي ينتمي إليها خليل جدران، ونعطي مثالًا على ذلك في أغنية "تيودا"، التي يبرز فيها مقطع مسجّل لأصوات احتجاجات شعبية، كما ونسمع فيها النشيد الوطني الفلسطيني، "فدائي"، وتسجيلًا لصوت طلقات نارية.

لكن للمفارقة، فمسار أغنية "كيف بروح" يبدو الأقل إلكترونية في كل الألبوم نظرًا للحضور العالي للآلات السمعية (acoustic) فيها وأسلوب توزيعها، فالعود مرافق باستمرار لغناء تانيا صالح بوجود إيقاع شرقي. ويتعزز الطابع التقليدي لشكل أغنية "كيف بروح" بالفقرة التي يترأسها العود وآلة الدودوك الأرمنية ذات الرنة الشرقية، فتذهب هذه الفقرة ثم تعود لتشكّل في كل مرّة فاصلًا موسيقيًا بين الفقرات المغنّاة.

أما "خناقة مع الله" و"أنا ليليت"، وهما الأغنيتان اللتان لحّنهما خليل جدران؛ فتتشابهتا من حيث عدم وجود لحن فعلي، فتم استخدام الإلقاء بدل اللحن من أجل وضع بناء للأغنية. وفي أغنية "خناقة مع الله"، ثمة مزج بين إلقاء "يونس الابن" لنصّ الأغنية، وبعض أبيات لموّال "لبنان يا قطعة سما" بصوت تانيا صالح. وقد بدا إلقاء يونس الابن في ظل الموسيقى الإلكترونية والإيقاع المعقّد نسبيًّا كأغنية هيب هوب (hip-hop). وقد شكّل الإلقاء بناء الأغنية من خلال عدّة عناصر: أولًا المقابلة بين نقديّة إلقاء النّص ونوستالجيا الموّال. ثانيًا، كان هناك فاصل لحظة بعد أسئلة "اللبننجي" الموجهة إلى لله في القصيدة. فلمّا "أجاب" الله، عادت الموسيقى. ثالثًا: أتت عِبرة القصيدة في نهاية الأغنية بالتزامن مع اختفاء الإيقاع إلكتروني وبروز صوت الكمان، ما أَضفى شاعرية عليها. وقد رست شاعرية الكمان بشكل تام في آخر الأغنية عندما برزت أبيات الموّال بشكلها الأكمل.

على الرغم من جدة الموسقى الإلكترونية على مسار تانيا صالح، إلّا أن ألبوم "تقاطع" لم يبدُ صادمًا، فقد وجدنا فيه عناصر لطالما كانت موجودة في أعمالها السابقة، كنمط التلحين الضعيف هارمونيًّا، وأدائها الغنائي الذي يعطي أولوية لوظيفة تعبيرية يقوم بها الصوت على حساب الإتقان الغنائي، ويجري فيه تكرار نفس الموقف السياسي الذي اعتدناه منها.

لعلّ الجديد هو تقدُّم صالح في سوق "الموسيقى المستقلة" من حيث تعاونها مع فرد من "حاجز 303" من جهة، ومن حيث أن ألبوم "تقاطع" هو ثاني عمل لها مع علامة التسجيل "ورشة عمل الكنيسة الثقافية" من جهة أخرى؛ ما سيسمح لها أن تُعرف أكثر في أوروبا.

ففي حين بدا أن صالح أرادت أن تتلافى تكرار نفسها كما كانت قد صرّحت في حلقة "بيت القصيد" قائلة: "رح أعمل موسيقى مختلفة... ما فيني ضل بنفس العلبة"، إلا أن تانيا صالح لم تستنفد نفسها في مجال الموسيقى السمعية ولا حتى في موسيقى الروك؛ إذ إنها كانت قد قررت سابقًا أن "أيام الروك خلصت". فربما يكون هناك ثمة طريقة ما بحيث تنتُج صالح موسيقى سمعية وموسيقى روك مع الحرص في الوقت نفسه على ألا تكرّر نفسها.

 

 

المساهمون