لوسيان بورجيلي: "أردتُ أن يتفاعل المُشاهد مع أحداث الفيلم"

لوسيان بورجيلي: "أردتُ أن يتفاعل المُشاهد مع أحداث الفيلم"

13 ابريل 2018
لوسيان بورجيلي
+ الخط -
فيلم أوّل لمخرج ذي خلفية مسرحية. موازنة ضئيلة. ممثّلون غير محترفين. المؤشرات كلّها تدلّ على أن "غداء العيد" للّبناني لوسيان بورجيلي مغامرة محفوفة بالمخاطر. لعلّ هذا سرّ نجاحه. فما من فيلم استطاع تحقيق شيء ما من دون مجازفة.

استطاع المخرج الشاب، بفضل سيناريو محبوك وإخراج ديناميكي، أن يتلافى أفخاخ الانغلاق والتكرار، التي تسقط فيها ـ عادة ـ الأفلام ذات الأجواء الداخلية. فرغم أن مجمل الأحداث تجري داخل شقة، التأمت فيها عائلة لبنانية لإحياء عيد الفصح، يُعانق الحكي آفاقًا رحبة، بحكم تنوّع الشخصيات (الفئات العمرية كلّها، من الرضيع إلى الشيخ مرورًا بالطفلة واليافع والشاب المقبل على الزواج وربّ الأسرة)، وتعدّد مرجعياتها وأطيافها، و ـ بالأخص ـ اختلاف نظرتها وآرائها حول مختلف جوانب العيش المشترك في لبنان.

نكتشف ـ من خلال ذريعة اختفاء ظرف النقود ـ سمات المجتمع اللبناني وتعقيداته ومفارقاته، على الشاشة، من دون أي ادّعاء أو خطاب مباشر. متتاليات من المشاهد القوية تحملنا ـ شيئًا فشيئًا ـ نحو خاتمة تفاجئ بصدقها، رغم حدسنا المنحى الذي تذهب إليه الأشياء.

فيلم أوّل صادق ومستقلّ، وكما نحبّ ونرغب في أن نرى مثله في المنطقة العربية. وهو شارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ24 (24 ـ 31 مارس/ آذار 2018) لـ"مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسّط"، فترك صدى طيبًا.

هنا حوار معه.


ما الدافع وراء اختيار ممثلين غير محترفين؟

هناك أنواع عديدة من الخبرة لدى الممثلين المشاركين في الفيلم. لكنهم يمثّلون في فيلم طويل للمرة الأولى. منهم من اشتغل في المسرح سابقًا، ومنهم من أدّى أدوارًا صغيرة في أفلام قصيرة. هناك من لم يمثّل أبدًا في حياته. هؤلاء "يحتلّون" نصف الـ"كاستينغ" تقريبًا. هناك من اشتغل معي في "محترف التمثيل" ("مسرح المدينة"، بيروت).

اخترت هذا لأني أردت أن يُحسّ مُشاهِد الفيلم بأنّ العائلة حقيقية. بالفعل، هكذا اعتقد كثيرون، قبل أن يتفاجأوا، مع "جينريك" النهاية، بأن ألقاب الممثلين مختلفة. هذا شيء كان ممكنًا، لأن وجوه الممثلين ليست معروفة بالنسبة إلى غالبية الجمهور اللبناني. أحسّ أن الممثل الذي يؤدّي دورًا للمرّة الأولى يعطي حبًا وشغفًا أكثر من المحترف أحيانًا. المرّات الأولى تنطوي، دائمًا، على جانب متفرّد، يمكن أن تصل عبره إلى شعور لا تبلغه التجارب الموالية.


جزءٌ كبيرٌ من حيوية الفيلم وديناميكيته يعود إلى
حركات الكاميرا. كيف فكّرت في هذا الجانب وأعددت له؟

أثناء دراستي "ماستر" السينما في لوس أنجليس، كان موضوع اللقطة الطويلة من الأشياء التي ركّزت عليها كثيرًا. شاهدت مراجع عديدة تخصّ هذا الموضوع في أفلام وتجارب مختلفة. أحبّذ اللقطة الطويلة، لأني أحسّ أنها هي التي تجمع، نوعًا ما، بين السينما والمسرح. اللقطة الطويلة تتيح إمكانات إخراج أهمّ. لكن طريقة حركة الكاميرا تتطلّب دقّة أكبر، في المقابل. أحد الأفلام التي أنجزتها أثناء دراستي عبارة عن لقطة طويلة تبلغ مدّتها 13 دقيقة. أحرص دائمًا على نوع من الكوريغرافيا في حركة الكاميرا، تضع المشاهد في قلب الأحداث. سألني كثيرون عن الشخصية الأساسية في الفيلم. يمكن أن تكون الشخصيةُ الأساسية المُشاهِدَ نفسه. أن يكون ليس فقط مُشاهدًا بل متفاعلاً ومنغمسًا في أحداث الفيلم.


هذا يُدعى تبنّي الفيلم وجهة نظر الكاميرا
.

نعم. أردت ألاّ يغادر الفيلمُ المشاهدَ بمجرّد خروجه من الصالة، بل أن يشكل هذا الانغماس دافعًا له إلى التساؤل عن حياته الخاصة، وعن عائلته. من مهام حركة الكاميرا أن يحسّ المُشاهدُ أنه أحد المدعوّين إلى طاولة الغذاء.


هناك أيضًا اهتزاز في حركة الكاميرا، خصوصًا في بداية الفيلم. ربما يخلق هذا أحيانًا نفورًا لدى مشاهدين عديدين. ألم يكن لديك تخوّف من هذا الخطر؟

بالتأكيد. سهلٌ تحضير مثبِّت ثلاثي الأرجل للكاميرا. لكن الثبات يقضي، منذ البداية، على الانغماس، لأنه يخلق مسافة بين المُشاهد والأحداث. هناك أيضًا في الكاميرا المحمولة إحالة على أجواء تسجيلية، كأنك بصدد توثيق اللحظة التي تجري أمامك. جان ـ لوك غودار يقول إننا عندما ننجز فيلمًا نكون بصدد إنجاز وثائقي عن الممثّلين. هذا حقيقي بالنسبة إلى "غداء العيد"، لأن الممثلين ـ بفعل الوقت الذي أمضوه معًا، والعلاقة الإنسانية التي جمعتهم بعضهم مع البعض الآخر ـ صاروا عائلة حقيقية، إلى درجة أن الطفلة تنادي كلّ شخص باسمه، وتقول لوالدها في الفيلم: "أنت أبي الثاني". أصبح للتخييل حقيقة كبيرة. إذْ ما الفرق بين الحقيقة والوهم؟ الشعور. لكن، إذا كان الشعور حقيقيًا، يُمكن أن يكون صادقًا في التخييل أكثر من الشعور في الحياة اليومية.

هذا همّي في الفيلم: أن أبلغ، ولو بنص خيالي مكتوب، شعورًا لا نبلغه في الحياة نفسها.


غودار نفسه يقول أيضًا إن كلّ فيلم تخييلي جيّد يتحوّل، في نهاية المطاف،
إلى وثائقيّ؛ والعكس صحيح. هذا لمسته في الفيلم من خلال الطرح المتعلّق بالجانب السياسي والطائفي. كيف تعاملت مع هذا المعطى أثناء الكتابة، وحسمت ما الذي ستقول، وكيف ستقوله؟

لكلّ فيلم مَشَاهد ـ أعمدة يرتكز عليها. بدلاً من أن أكتب نصّ الفيلم بكامله، ثم أكتشف بعدها مشاهدي الأساسية، كتبت هذه الأخيرة أولاً، ثم جعلت الباقي ينتظم حولها. هذه منهجية عكسية نوعًا ما. المشاهد الأساسية كلّها مستلّة من حياتي الخاصة، أو من حياة أقارب لي. لذلك، كنت أتوفّر على تفاصيل الحوار والأجواء الخاصة به. هذا جانب حقيقي مهمّ لي. حتى من يرسم لوحة لن يخرج عمّا اختبره في حياته: ما عاشه أو رآه، والأشخاص الذين قابلهم، وتصرّفات شاهدها. لا يمكن أن تعزل نفسك عن حياتك وشخصيتك وشعورك، وتخلق عملاً فنيًا مجرّدًا في الفراغ. هذا الفيلم نتاج كلّ ما تأثّرت به في حياتي.


تكلّمت عن خلفيتك المسرحية
. هذا جانب ينطوي على مزايا ومخاطر أثناء الاشتغال في السينما. كيف تجنّبت "المسرحة" أثناء إنجاز الفيلم؟

المسرح الذي أشتغله يُشبه، في الأصل، السينما. من يشاهد المسرحيات يقول إنها تشبه الأفلام كثيرًا. لا أحبّذ المسرحة. أجنح إلى المسرح الانغماسي والحيّ: أي كيف يُمكن أن تكون جلستنا هذه في المقهى مسرحية بحدّ ذاتها، أنا الممثل، وأنت تلعب دور الصحافي، وأنا أرتجل الأجوبة بحسب ما أشعر به. لا أحبّ أن يظلّ المُشاهد جالسًا في مقعده، وتكون مسافة بينه وبين المسرحية. هاجسي إزالة المسافة معه، وإشراكه في "نزول" الممثلين إليه، ودفعهم إلى إشراكهم إياه، وجعله يحسّ أن المسرحية ستكون مختلفة من دونه، أو لو أن شخصًا ما غيره يجلس في مكانه.

هذا ما أحاول فعله في السينما: أن يأخذ المُشاهدُ الفيلمَ معه، ويحيا داخله. أحدهم قال لي: "ماذا فعلت بي؟ ظللت أجادل زوجتي حول الفيلم حتى الثانية ليلاً". هذا، بالنسبة إليّ، جزء من الفيلم.

 

الفيلم مستقل، وهذا مهمّ لك لأنه منحك حرية مطلقة. هل ستستمر على هذه الصيغة في أعمالك المقبلة؟

أرغبُ في الاستمرار، لكني ربما لن أستطيع. أكتبُ نصًا يتطلّب أماكن تصوير عديدة، وليس مكانًا واحدًا. يُمكن أن يتعلق الأمر بفكرة تتطلّب 20 مكانًا و100 ممثل وعددًا كبيرًا من أيام التصوير. عندها، يتوجّب عليّ إيجاد حلول تمويل مغايرة. لكنّي أفضِّل الإنتاج المستقل، لأن هذا ينقصنا كثيرًا. عادةً، نمارس رقابة ذاتية على أنفسنا من دون أن نشعر. عندما تُرسل نصًّا إلى جهة مموّلة أو منتجٍ، نبدأ التفكير بماذا يبحث عنه المنتج، وبما يفضّله من أعمال. هذا يأخذ وقتًا طويلاً أيضًا.

لديّ الآن كاميرا ومعدّات إضاءة. أفضّل التفكير بكتابة نص وفق هذه الإمكانات المتواضعة، بدل انتظار 5 أو 10 أعوام، ويكون الفيلم في نهاية المطاف شيئًا لا يشبه ما كنتُ أنوي إنجازه. الحماسة تفتر مع الوقت. عندما تكتب عملاً وترسله، ثم تنتظر الجواب، ثم تشتغل على السيناريو في ورشات كتابة، إلخ. هكذا تمضي 5 أعوام، فيصبح الفيلم شيئًا آخر غير الذي كتبته.

ذات مرة، شاهدت وثائقيًا عن بيكاسو وهو يرسم. كان يرسم اللوحة، ثم يعيد الرسم فوقها مرات ومرات، فيدفعك إلى الاعتقاد أنه ربما فوّت على نفسه لوحات رائعة كثيرًا أثناء هذه السيرورة، وهو الآن في مكان مختلف تمامًا عن ذاك الذي بدأ منه. بالطبع، ليس بالضرورة أن تكون اللوحة الأخيرة هي الأفضل، لكن المهمّ هو أن لا أحد يقول لبيكاسو ما ينبغي أن يرسمه. قرار البحث والتغييرات الكثيرة التي يدخلها على اللوحة يعود له، وله وحده فقط، وإلاّ فلن تكون اللوحة له.

هناك خطر أن تجد نفسك في نهاية المطاف أمام فيلم لا يشبه ما كنت ترغب في إنجازه أصلاً. أتفهّم كم أن الأمر ينطوي على مخاطرة كبيرة. اليوم، لا أزال أسكن بيتًا بالإيجار. منذ أعوام، أدخر نقودًا لشراء شقّة. لكن، بدلاً من ذلك، قلت لنفسي أن أغامر في إنجاز فيلم بالمبلغ ـ الدفعة الأولى لاقتناء مسكن. شغفي بفكرة إنجاز فيلم حاسمٌ في هذا القرار. لو أن شخصًا آخر مكاني، لفضّل ربما تأمين شقّة له.

أقول دائمًا: إذا لم نفعل ما نحبّ، فأي معنى يبقى للحياة أصلاً.

دلالات

المساهمون