وحوش غيلّيرمو دِلْ تورو... فانتازيا سياسية وصراعات واقعية

وحوش غيلّيرمو دِلْ تورو... فانتازيا سياسية وصراعات واقعية

03 مارس 2018
من "شكل المياه" لغيلّيرمو دِلْ تور (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
في مطلع الألفية الحالية، صدَّرت السينما المكسيكية للعالم 3 مخرجين، سيصبحون لاحقًا من رموز صناعة الأفلام: أليخاندرو غونزاليس إيناريتو (1963)، الحاصل على جائزتي "أوسكار" أفضل إخراج (2015 و2016) عن Birdman (2014) وThe Revenant (2015)، وألفونسو كوران (1961)، الفائز بـ"أوسكار" أفضل إخراج (2014) عن Gravity (2013)، وغيلّيرمو دِلْ تورو (1964)، الذي ربما يُكمِل المثلث بـ"أوسكار" جديد، عام 2018، عن The Shape Of Water (2017).


بين الـ3، صنع غيلّيرمو دل تورو أفلامًا عن وحوشٍ وقصصٍ خيالية وأساطير مرعبة، ما جعله الأكثر قابلية للاستيعاب في صناعة السينما في هوليوود، بإنتاجاتٍ تجارية غير مهمّة، كـBlade 2 (2002) وHellboy، بجزءيه المُنجزين عامي 2004 و2008، وPacific Rim (2013).


لكن، هناك 3 أفلام له تُشكِّل "القلب النابض" لمشروعه السينمائي: "3 أفلام أنقذت حياتي"، كما قال أثناء استلامه جائزة "غولدن غلوب" كأفضل مخرج (7 يناير/ كانون الثاني 2018)، عن فيلمه الأخير. 3 وحوش يعود لها الفضل في كونه حيًّا وقادرًا على التواصل مع العالم.

الوحش الأول حاضرٌ في "العمود الفقري للشيطان" (The Devil’s Backbone، 2001): فتى (12 عامًا) ينضمّ إلى ملجأ للأيتام، أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، وفترة مقاومة قوات الديكتاتور فرانكو. في ليلته الأولى، يُفاجأ بشبح طفل ميتٍ ذي شكلٍ مخيف، يخبره بأنه "سيموت الكثير منكم".

الوحش الثاني موجودٌ في "متاهة فون" (Pan’s Labyrinth، 2006): أحد أفضل إنتاجات ذاك العام، وأشهرها. ورغم أنه غير أميركي، رُشِّح لـ6 جوائز "أوسكار"، فاز بـ3 منها في المجالات التقنية (تصوير وديكور ومكياج). تدور أحداثه في إسبانيا الفاشية، منتصف أربعينيات القرن الـ20. هناك طفلة تعيش في بيت قائد الجيش، الذي يحاول سحق المقاومة، بينما تذهب، هي نفسها، في مغامرة خيالية وراء مخلوق أسطوري في المتاهة، يخبرها بأنها "أميرة"، يجب أن تعود إلى عالمها وأبيها الملك.

الفيلمان متشابهان في تفاصيل كثيرة: كلاهما من بطولة طفل/ طفلة، وتدور أحداثهما في أجواء الحرب الأهلية، في ظلّ صراع سياسي متّقد. شخصيات فرعية كثيرة يتم تحديد مقدار "خيرها" و"شرّها" وفقًا لانتمائها إلى السلطة أو المقاومة. فيهما، يدمج دِلْ تورو بين عالم فانتازي شاعري، ودموية مفرطة وقسوة غير محتملة في مَشَاهد عديدة. أخيرًا، تتناول مواضيعهما ثنائية الحياة والموت، والمعنى الحقيقي للخلود.

بدا "متاهة فون" نسخة أكثر تماسكًا ونضجًا من "العمود الفقري للشيطان". كأن دِلْ تورو طوّر أدواته السينمائية، والعوالم التي تستهويه، في 5 أعوام، كي يصنع تحفته الأولى، منتظرًا من بعدها الكثير. لكن، ما حدث أنه انغمس تمامًا في التجاريّ. حتى عندما أخرج Crimson Peak عام 2015، الذي يُفترض به أن يحتوي على وحشٍ جديد من وحوشه الملهمة، أتى الفيلم تقليديًا وفقيرًا؛ وبدا أن الرجل فَقَد بصمته "إلى الأبد". لكنه عاد، أخيرًا، بـ"شكل المياه"، المتوّج بجائزة "الأسد الذهبي" في الدورة الـ74 (30 أغسطس/ آب ـ 9 سبتمبر/ أيلول 2017) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائيّ"، والمرشَّح حاليًا لـ13 جائزة "أوسكار".

الفيلم الـثالث الذي أنقذ حياة دِلْ تورو، بحسب تعبيره، هو "شكل المياه". تدور أحداثه ـ مرة جديدة ـ في ظروفٍ سياسية معقدة، لكن أثناء الحرب الباردة، هذه المرة: فتاة بكماء، تعيش حياة مغلقة، وتشتغل كعاملة تنظيفات في مختبر علمي. مع وصول وحش برمائي غريب، تنشأ علاقة استثنائية بينهما، تبدأ بالصداقة وتنتهي بالحب.

في النصف الأول من الفيلم، تبدو الأدوات كلّها الخاصّة بغيلّيرمو دِلْ تورو موجودة بالفعل. هو صانع أفلام، وراوي حكايات. لديه قدرة خارقة ونادرة على جعل المُشاهدين يتماهون مع الفانتازيا التي تحدث أمامهم (من قبيل تصديق وجود كائن كهذا)، واعتباره حقيقة. ينجح غالبًا في ذلك بسبب الخلفية التاريخية الحادة التي يجعلها، دائمًا، جزءًا من الحكاية؛ وفي الوقت نفسه، هناك قسوة ودموية مفرطة في بعض المشاهد، تجعل المشاهدين يشعرون بـ"واقعية" ما في تلك الحكاية الأسطورية. لذلك، "يصدّقون" ما يحدث، خصوصًا مع أداء رائع وحقيقي لسالي هوكينز.



في المقابل، يُصرّ دِلْ تورو على استخدام "العناصر نفسها للحكاية"، المستخدمة في فيلميه السابقين، وإنْ تكن فائضة، وغير مبرّرة هنا. يحاول أن يجعل من مايكل شانون شريرًا ساديًا مفرط القسوة، على غرار قائد الجيش الإسباني، ويغرق مشاهديه في تفاصيل عن الحرب الباردة بين الروس والأميركيين. مع فارق واحد هذه المرة: هذا ليس قصّة في صميم الفيلم، على غرار الثوّار والفاشيين.

الأسوأ أن السيناريو (دِلْ تورو وفانيسا تايلور) يظهر، في النصف الثاني، بشكل مفتعل للغاية. تطوّر العلاقة بين الوحش والفتاة البكماء إلى حبّ بدا ـ رغم محاولاته وشاعريته البصرية ـ غريبًا ومقحمًا للغاية. كأنه يهدف إلى رسالة سامية عن قوّة الحب ونبذ أي اختلاف مهما يكن. لكن هذا حاصلٌ في مقابل التضحية بمنطق عمله وصلابته.


رغم عيوبه، وكونه ـ بالتأكيد ـ الأضعف بين "وحوشه الـ3"، إلا أن "شكل المياه" يحمل في جنباته أصالة فنية، وقدرات تقنية مدهشة، تجعل من غيلّيرمو دِلْ تورو مرشّح الـ"أوسكار" الأبرز في فئة الإخراج، ليلتحق برفيقيه إيناريتو وكوران في هذا المجال. لكن الأهم، ليؤكّد قيمة مشروعه السينمائي، الذي لم يبهت ولم يفقد رونقه، حتى لو حمل بعض العيوب.

دلالات

المساهمون