"مرايا الشتات" لقاسم عبد: ثنائية المنفى والصورة

"مرايا الشتات" لقاسم عبد: ثنائية المنفى والصورة

26 مارس 2018
جبر علوان في "مرايا الشتات" (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
يعود العراقي قاسم عبد (يُقيم في لندن منذ عام 1982)، في الوثائقي الجديد "مرايا الشتات" (2018)، إلى بداية تسعينيات القرن الـ20، كي يُكمِل حكاية المنفى، عبر الفن والحياة والعلاقات والذاكرة. عام 1991، يتجوّل عبد في مدن أوروبية، للقاء 7 فنانين عراقيين (عرب وأكراد) يُغادرون بلدهم، منتصف سبعينيات القرن نفسه، لدراسة أكاديمية في روما وفلورنسا (إيطاليا)، ويُقرّرون البقاء في مدن الاغتراب (بعضهم ينتقل إلى هولندا والسويد)، جاعلين أنماط العيش اليومي مرايا ذات وذكريات ووقائع راهنة، ومستندين إلى ابتكاراتٍ في الرسم والنحت، كي يجعلوا المنفى امتدادًا لنسقٍ إنسانيّ في التعامل مع تلك الذات والذكريات والوقائع الراهنة.

اللقطات القديمة قليلةٌ في "مرايا الشتات"، المفتوح على حاضرٍ يروي فيه كلّ فنان حكايته. اللقطات القديمة أشبه بحيّز يضع صُوَر "الآن" إزاء تلك الملتقطة في "الأمس"، لتبيان تبدّلات في الجسد والأمكنة، ولكشف متغيّرات الروح والوعي والمعرفة والابتكار، بالارتكاز التوثيقيّ على متتاليات سردية، مصنوعة بلغة هادئة وبسيطة، ومفتوحة على داخل الفرد وروحه، كما على علاقته بالمكان المختار للعيش، وبالألوان والكلمات والأدوات والجدران والأزقّة والمنازل والناس والفضاءات. فالتوثيق المعتَمد دليلٌ للمُشاهِد في رحلة ـ إنسانية وجمالية وثقافية ـ تبدو كأنْ لا بداية محدّدة لها، ولا نهاية متوقّعة، بقدر ما هي شهادة حبّ، وحوار دائم، ولقطة تؤرّخ اللحظة، وتمنحها شيئًا من حيوية التساؤلات والمَواجع والقلق والرغبات والهناء.

أسلوب تسجيلي يتحرّر، غالبًا، من مفردات قديمة، كي يجعل الشكل حافزًا للتنبّه إلى أحوالٍ وانفعالات واشتغالٍ. فالشكل المبسّط دعوة إلى مرافقة السينمائيّ الوثائقي في رحلته الخاصّة أولاً، والجماعية ثانيًا، داخل أروقة النفس وتساؤلاتها، واللوحات ومسامها، والمشاعر وتقلّباتها، واللغة ومفاتيحها المؤدّية إلى تعرية، ولو قليلة، لتلك الذوات القلقة والمتسائلة، والمرتاحة، أحيانًا، إلى عيشٍ متلائم وطموحات عديدة، في الحياة والعلاقات والفن والسكينة، وإنْ يُعلِن بعض هؤلاء مرارة الثقل الإنساني، المتمثّل بجرح عربيّ مفتوح على الموت والدم والعنف والغبار.

وإذْ يتفرّد جبر علوان (1948) في انصرافه إلى ذكريات إقامة طويلة له في دمشق، واصفًا جمالها وبهاء ناسها وأمكنتها بكلمات بسيطة وعادية وشفّافة وعميقة، في آن واحد (إلى كلامٍ عن الغربة والأمكنة واللوحات أيضًا)؛ فإن الكردي بَالدين أحمد (1954) مُصابٌ بإرثِ العنف السلطويّ، المؤدّي إلى فقدانٍ وخيبات؛ بينما عفيفة لعيبي (1953) غير متنصّلة من فرحٍ ذاتيّ بحت، في سردها مقتطفات عيشها في الغربة، فتبوح بحبّ وزواج متأتيين من لقاء برجلٍ يُعجب بأعمالها، قبل أن يُعلن إعجابه بها. أما الآخرون، فمنشغلون في إيجاد منافذ لهم من خليط ماضٍ غارقٍ بلعنة الخراب والقمع والتغييب، بحاضرٍ محمَّل بندوب ذاك الماضي، وانفراجات ذاك الحاضر في منافي الاغتراب.



بهذا، تكشف "مرايا" قاسم عبد، في "شتات" فنانيه، حالات إنسانية تكسر قيد الحزن والموت واللوعة، كي تقول شيئًا من روعة الحياة ومزايا الحب وبهاء السكينة. فالكردي فؤاد عزيز (1951)، مثلاً، يخرج من أمكنة عمله (المحترف) كنحّات يُحوّل ما يقع بين يديه إلى نماذج فنيّة تعكس حكاياتٍ ومسائل وأحلامًا، كي يذهب إلى عالمٍ مُكمِّل لفنّه، لكن عبر الكتابة والرسم. له نصوصٌ ورسومات للأطفال، وله لقاءات معهم في مدارسهم، وله بوحٌ يقول بعض الفن واللون والمعاني. في حين يجد علي عسّاف (1950) في "فنّ التركيب" (Installation) امتدادًا لأدوات تعبيره، جاعلاً الفيديو والأداء ـ في الوقت نفسه ـ انعكاساتٍ إضافية لما تختزنه روحه وانفعالاته وتأمّلاته من محتوى ذاتيّ، عن الغربة والبلد ونزاعات الطوائف والمذاهب.

هذه نماذج. كاظم الداخل (1951) ورسمي الخفاجي (1947) غير مختلفين كثيرًا عن الفضاءات الفنية ومزاياها الجمالية، التي يصنعها الآخرون، بأشكالٍ مختلفة، والتي يُقدِّمها قاسم عبد بكاميراه المرافقة لهم جميعهم في لحظاتٍ وأمكنةٍ ومواقف، كي يوثّق حكاياتهم بلغة بصرية غير مدّعية وغير متصنِّعة، بقدر ما تملك شفافية العلاقة السوية والجميلة والهادئة بكلّ واحد منهم، وبالحيّز ـ الجغرافي والإنساني والجماليّ ـ لكلّ واحد منهم، أيضًا.

تلك البساطة في التقاط الحكايات سمة قاسم عبد، في فيلمين سابقين له: "حياة ما بعد السقوط" (2008) و"همس المدن" (2014). التوغّل في أعماق مدينة ونفسٍ فردية، جزءٌ من مشروع سينمائي يريده عبد ركيزة فنية لاشتغاله الوثائقي. والأعماق محتاجة إلى حنكة الكاميرا كي تتمكّن (الأعماق) من كشفِ شيء من تفاصيلها ومعالمها.

هذا قائمٌ في أعمال قاسم عبد، كمحاولة دائمة لتبيان بعض الأعماق، تمامًا كما في "مرايا الشتات"، وعوالم الفنانين الـ7.

المساهمون