السينما العربية في العالم: حاجةُ مهرجانات وجماليةُ إنتاج

السينما العربية في العالم: حاجةُ مهرجانات وجماليةُ إنتاج

23 مارس 2018
إيليا سليمان: جائزة لجنة تحكيم "كانّ 2002" (فيسبوك)
+ الخط -
يزداد الحضور السينمائي العربي في مهرجانات دولية مختلفة، بعضها منضوٍ في الفئة الأولى (برلين و"كانّ" والبندقية). وصول أفلام عربية إلى اللوائح القصيرة لجائزة "أوسكار" الهوليوودية، في فئة "أفضل فيلم أجنبي"، إضافةٌ إلى معنى هذا الحضور، وتمدّده في محافل أساسية في المشهد السينمائي العام. حصول بعض الأفلام على جوائز، دعمٌ مطلوبٌ لصناعةٍ تواجه تحدّيات جمّة في بلادها، ولنتاجٍ يُعرَض ـ بصعوبة أحيانًا ـ في صالات تجارية غربيّة، وينال تقديرًا جماهيريًا واهتمامًا نقديًا، متفاوتي الحجم بين فيلم وآخر. 

تساؤلات عديدة يطرحها ذاك الحضور. فطغيان الهمّ السياسي على الجغرافيا العربية سببٌ لتشكيك كثيرين في "دوافع غربية" تؤدّي إلى مُشاركةٍ في محفلٍ سينمائي، وفوزٍ في مهرجان دولي أو جوائز معيّنة. للغرب ـ في المقابل ـ توجّهات ومصالح ورغبات ومطالب، وإنْ تبقى كلّها مبطّنة وغير واضحة أو مباشرة. مهرجانات عريقة، تمتلك تأثيرًا واضحًا على الحراك السينمائي في العالم، تختار ـ أحيانًا ـ ما يُلائم سياساتها وخططها الثقافية والجمالية، من دون إغفال حاجتها إلى جمهورٍ، لن تتغاضى عن حاجاته.

الجودة والمصالح

أمثلةٌ على ذلك: الاهتمام السياسي ـ الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ الإعلامي الغربي بدول أوروبا الشرقية، قبل انهيار الاتحاد السوفييتي السابق وبعده (1991)، ينعكس اهتمامًا بالأحوال السينمائية الخاصّة بها، في مهرجانات ومحافل. بروز سينمائيّ لمخرج إيرانيّ، كعباس كياروستامي، في فرنسا، تنبيهٌ إلى نتاجٍ سينمائي في بلدٍ خاضع لسلطة الملالي. "الربيع العربي" تحريضٌ للغرب على معاينة الواقع عبر أفلامٍ سينمائية، متفاوتة الجودة، فنيًا وبصريًا ودراميًا.

هذا واقعٌ، لن يُلغي جوانب الإبداع السينمائيّ. فالمهرجانات غير معنيّة بإطلاق تيارات تجديدية في الفن السابع، وغير مكترثةٍ بالترويج لأي جديد ممكن في صناعة الصورة واللغة السينمائية، لكنها ـ في الوقت نفسه ـ غير متغاضية عنهما كلّيًا في الغالبية الساحقة من اختياراتها. اختيار الأفلام منطلِقٌ من مفردات تلك الجودة، من دون أن تجعلها الأساس الأول والوحيد. أفلامٌ تنال اهتمامات دولية وجوائز دولية وتكريمات دولية، لكونها مرايا بيئات وحكايات يريد الغرب، عبر مهرجاناته الدولية، التعرّف إليها، خارج الإعلام المرئي والصحافة المكتوبة والريبورتاج التلفزيوني. أفلامٌ كهذه تبقى أقلّ أهمية سينمائية من أفلامٍ منتمية إلى البيئات والحكايات نفسها، لكن الغرب غير ملتفتٍ إليها، أحيانًا.

النقاش مفتوحٌ، وإنْ يخفت وهجه بين حينٍ وآخر. غليان النقاش حاضرٌ، مؤخّرًا، مع حصول "قضية رقم 23" (2017)، للّبناني زياد دويري، على "ترشيحٍ رسميّ" لـ "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، في الدورة الـ90 (4 مارس/آذار 2018)، من دون أن يفوز بها. للمخرج تجربة سابقة مثيرة للجدل، بتصويره جزءًا كبيرًا من فيلمه السابق "الصدمة" (2012) في تل أبيب. جديده مرتكز على أحد فصول الصراع بين لبنانيين وفلسطينيين، في الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990). البعض يرى الجديد متواطئًا مع الرواية اليمينية المسيحية المُعادية للفلسطينيين، والبعض الآخر يُذكِّر بمواقف هجومية لدويري إزاء رفض التطبيع وحركة المقاطعة. هذا كفيلٌ بانتشار مقولة "الخضوع" للغرب، لبلوغ أعلى المراتب السينمائية فيه. الترشيح الرسمي لـ "أوسكار"، على حساب أفلام عربية أهمّ، سينمائيًا وجماليًا ودراميًا، دليلٌ على وجود خطط غربيّة، لن تكون سينمائية كلّها.




لكن نقّادًا عربًا يُدركون أن فوز "قضية رقم 23" بـ "أوسكار" أفضل فيلم أجنبي مستحيلٌ، لوجود أفلامٍ أهمّ وأعمق وأجمل، سينمائيًا، تنافسه على التمثال الهوليوودي؛ ولقناعةٍ لديهم بأن "أكاديمية فنون الصورة المتحرّكة وعلومها" (مانحة الجوائز) تحافظ على السينمائيّ في خياراتها، ولا بأس إنْ يتضمّن السينمائيّ أحوالاً في الاجتماع والسياسة والحكايات المختلفة. آخرون مكتفون بقولٍ مفاده أن مجرّد حصول الفيلم على "ترشيحٍ رسميّ" يعكس مسار زياد دويري في مواقفه واشتغاله.

هذا ليس جديدًا. مع نيل "خارج الحياة" (1991)، للّبناني الراحل مارون بغدادي (1950 ـ 1993)، جائزة لجنة التحكيم الدولية، في الدورة الـ44 (9 ـ 20 مايو/أيار 1991) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، يُواجَه المخرج باتّهام: إنه يسرد رواية غربيّة عن مسألة احتجاز رهائن غربيين في بيروت، على أيدي مسلّحي "مليشيات إسلامية"، خلال الحرب الأهلية اللبنانية نفسها. ومع أنّ الفيلم يمتلك حساسية سينمائية تتفوّق على هذا الجانب من الموضوع، إلاّ أن حصول الفيلم على تمويلٍ فرنسي، لسرد حكاية فرنسية في قلب النزاع اللبناني، كفيلٌ بتوجيه اتّهام كهذا.

هذا مثلٌ. النقاش غير منتهٍ. الإجابات معلّقة. لكن، ماذا يقول نقّادٌ عربٌ، يتابعون مهرجانات دولية مختلفة؟ كيف ينظرون إلى علاقة المهرجانات السينمائية الدولية بالأفلام العربية: أهي مرتكزة، فعليًا، على جماليات الصناعة العربية، أم أن اهتماماتٍ "غير سينمائية" تدفع المهرجانات إلى اختيار هذا الفيلم أو ذاك؟

السينما.. وأشياء أخرى

يرى الناقد المصري أحمد شوقي أن الأمر "مزيجٌ من هذا وذاك"، بينما يؤكّد الناقد العراقي قيس قاسم "استحالة تقديم جوابٍ حاسم"، في مقابل قناعة الناقد اللبناني هوفيك حبشيان بصعوبة تناول الموضوع بشكل عام، "فلكلّ مهرجان سياسة معينة، وإنْ تبقى، غالبًا، غير مُعلنة أو واضحة". بالنسبة إلى قاسم، السؤال "إشكاليّ"، يقترن "في جوهره، بوظيفة الفن على مدى التاريخ البشري". يختار "مهرجان برلين السينمائي (برليناله)" في ألمانيا ـ وهو "الأكثر شعبية بين المهرجانات الـ3 الأولى في العالم، إلى جانب "كانّ" (فرنسا) والبندقية (إيطاليا) ـ كمثلٍ، ليقول إن مديره ديتر كوسليك "لا يُخفي ميله إلى تسييس اختياراته، وتغليب مواضيع آنيّة على دورات تُصاحبها زمنيًا"، متوقّفًا عند "الربيع العربي"، الذي يعتبره حبشيان سببًا لتبدّل الأمور قليلاً: "معه، بدأنا نُشاهد أفلامًا عربية في المحافل الدولية، علمًا أن الاختيارات تتجّه، دائمًا، إلى الأفلام الأكثر تعبيرًا عن الوضع العربي ككل، كي تتماشى مع رغبات الجمهور في المعرفة والاطّلاع على ما يجري في بلدان بعيدة، وغير مستقرّة".

يُقدِّم حبشيان مثلاً على ذلك، بقوله إن "مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي" يتجاهل دائمًا السينما العربية، "لاهتمامه الأساسيّ بالبحث عن كلّ مستجدّ ومثير في سينما أوروبا الوسطى، اختصاصه الأبرز". لكن الأمور متبدّلة، في الآونة الأخيرة، مع التغييرات الحاصلة في العالم العربي: "يُدرك منظّمو المهرجانات أن السينما نقيض الأخبار، أحيانًا كثيرة؛ وأنه غير ممكن الاعتماد على وسائل الإعلام لمعرفة أحوال بلدٍ أو أمّة أو شعب".

"لن نخدع أنفسنا، ونقول إن اختيار المهرجانات الدولية للأفلام العربية كلّها خيار فني أساسًا، يرتكز على قيمها الجمالية، بالطريقة نفسها لاختيارهم الأفلام الفرنسية مثلاً"، يقول أحمد شوقي، مُضيفًا أن الفيلم غير المنتمي إلى العالم الأول يبقى موضوعًا أنثروبولوجيًا، "بقدر ما هو إنجاز فني". هذا كلّه ـ بالنسبة إليه ـ ظاهرٌ، بوضوح، في اختيار أفلام متعلّقة بالواقع السياسي الراهن، كموضة "أفلام الربيع العربي"، أو "أفلام اللجوء غير الموثَّق". يُضيف: "فجأة، تفتح المهرجانات أبوابها أمام أفلامٍ عديدة، تتناول هذه الفكرة أو تلك، وبعضها، إنْ لم يكن معظمها، أفلامٌ متواضعة، غير متمكِّنة من الوصول إلى منصّات دولية لولا قضيّتها".
هذا متوافق، إلى حدّ ما، مع رأي هوفيك حبشيان، القائل إنّ أفلامًا عربية عديدة "تخطف" قلوب الجمهور الغربيّ في مهرجانات دولية مختلفة، كـ "قضية رقم 23" لزياد دويري، و"التقارير حول سارة وسليم" (2018) للفلسطيني مؤيد عليان، و"على حلّة عيني" (2016) للتونسية ليلى بوزيد، و"3000 ليلة" للفلسطينية مي المصري: "هذه ليست "تُحفًا" سينمائية، لكن الجمهور الغربي متحمّس لها، والمهرجانات محقّة في اختيارها، لأن مهرجانات عديدة تُعتَبر "سلّة عروض" وليس مكانًا لإطلاق الاتجاهات الجديدة في السينما المعاصرة". يُضيف حبشيان أن الجمهور مهمّ، لذا "يستجيب له منظّمو تلك المهرجانات"، مؤكّدًا أن حضوره المتواصل في مهرجانات دولية يُنبِّهُه إلى أن هذا الجمهور "يميل إلى الموضوع والحكاية أكثر من ميله إلى المعالجة والمعايير الفنية، كالإخراج والسيناريو والتمثيل".

مراعاة الجماليات والإبهار البصري، في أوروبا على الأقلّ، خاضعان، برأي قيس قاسم، "للذائقة، قبل كلّ شيء"، إذْ يصعب تخيّل أن مبرمجي المهرجانات "يتهاونون مع المُنتَج السيئ، الواصل إليهم". مع هذا، يقول قاسم إن المبرمجين يُراعون، حتمًا، "اعتبارات سياسية، ومواقف اجتماعية وأخلاقية". يوافق أحمد شوقي، قائلاً إنّ هذا كلّه "لا ينفي اختيار أفلام عديدة لأسبابٍ جمالية"؛ موضحًا المسألة بطريقة أخرى: "عندما يكون الفيلم جميلاً، ويمتلك موضوعًا جذّابًا للغرب، فهذه خلطة مثالية، كـ "التقارير حول سارة وسليم". وعندما يكون الفيلم جميلاً، ولمخرجه تجارب سابقة صنعت له اسمًا دوليًا، يُفتَح ذلك الباب أمامه، كـ "واجب" (2017) للفلسطينية آن ـ ماري جاسر. هناك أيضًا هامش صغير يُتيح اختيار أفلام جميلة لمخرجين جدد، لا تُناقش قضايا ساخنة، كـ"أخضر يابس" (2016) للمصري محمد حماد".
يختصر شوقي المسألة على هذا النحو: "فيلم جيد زائد قضية ساخنة، تكون الخلطة مثالية. فيلم جيد زائد اسم مرموق، تكون الخلطة أقرب إلى النجاح. لكن، بين فيلم جيد وموضوعه غير جاذب ومخرجه جديد، وفيلم أقلّ أهمية في المستوى مع موضوع مُثير أو مناسب للحظة الراهنة، تختار المهرجانات الفيلم الثاني، للأسف الشديد".

في المقابل، يشير هوفيك حبشيان إلى غياب دراسات حقيقية في هذا المجال، فـ"كلّ ما أقوله لا يتعدّى التخمين أو المشاهدات". بينما يذهب أحمد شوقي إلى القول إن "زوال الموضة (القضايا الكبيرة) يدفع المهرجانات إلى الاهتمام بمواضيع أخرى"، مُقدِّمًا مثلاً على ذلك: تناقص عدد الأفلام العربية المعروضة في الـ"برليناله" (2018) عن العدد شبه الثابت بعد "الربيع العربي"، والالتفات ـ حاليًا ـ إلى مسألة "التحرّش الجنسي".

بعد المُشاركة والفوز

إلى ذلك، يُطرح سؤال آخر: إلى أي مدى يُمكن لمهرجان سينمائيّ دولي أن يؤثّر "إيجابًا" على الفيلم العربي ومخرجه، في مسائل متعلّقة بالتوزيع الدولي، وإمكانية "تسهيل" الأمور الإنتاجية للمخرج في مشاريعه المقبلة؟

يقول أحمد شوقي: "التأثير موجود، لكن حجمه غير مضمون، ويرتبط باسم المهرجان، والقسم الذي يُعرض فيه الفيلم المختار، وبموضوع الفيلم وجودته. الفيلم المختار في "كانّ" يعثر غالبًا على موزّع دولي، يضمن عرضه أوروبيًا. لكن أفلامًا عديدة معروضة في منتدى "فوروم" في "برليناله" لم تعرض على الشاشات الأوروبية". بالنسبة إلى هوفيك حبشيان، يبقى الفيلم العربي، كغيره من الأفلام، "سلعة خاضعة لمنطق السوق، أي لثنائية العرض والطلب". يقول إن عرض فيلم عربي في مهرجان صغير، في بلد من بلدان أميركا اللاتينية، يوفّر لصاحبه مردودًا معنويًا فقط. أما إطلاقه في "كانّ" أو برلين أو البندقية، فيفتح أمامه الأبواب كلّها، خصوصًا إذا مُنح جائزة.

أما قيس قاسم، فيختصر المسألة بالقول إنّ "كلّ مشاركة مهمّة للفيلم العربي"، داعيًا إلى تصوِّر العكس: "ماذا يحصل إذا أحجمت الأفلام العربية عن المشاركة في المهرجانات السينمائية الدولية؟ من المستفيد من عزوفٍ كهذا؟". يقول إن المشاركة تمنح مخرجي الأفلام العربية والعاملين فيها "فرصًا مثالية"، لأن المهرجانات الدولية "لا تكتفي عادة بالعروض، ففيها أسواق، وهناك إمكانيات شتّى لإقامة علاقات عامة، تصبّ غالبًا في صالح المُنتَج المعروض".
من جهته، يقول حبشيان إن المهرجانات "غير مكتفية بمنح شرعية للفيلم فقط، لأنها توفّر له، أيضًا، أكبر عدد من المُشاهدين، ذوي القرار والرأي المؤثّر. هناك 4000 صحافي يروّجون له. هذا كلّه تمهيدٌ لعرضه في الصالات، وعامل مساعد على بيعه في الغرب". أما شوقي فيقول: "ليس كلّ فيلم معروض في مهرجان سينمائي يوزَّع دوليًا. لكن الأفلام كلّها الموزّعة دوليًا معروضة سابقًا في مهرجانات. الاختيار خطوة أولى ضرورية، تتبعها خطوات أخرى".

أخيرًا، هناك سؤال الفائدة الممنوحة من المهرجان الدولي للمشاريع الجديدة للمخرج العربي.
يعتبر هوفيك حبشيان مسألة حصول العربيّ على تمويل لمشروعه الجديد "شأنًا أكثر تعقيدًا"، إذْ أن المشاركة وحدها غير كافية، "وعلى الفيلم أن يشقّ طريقه بنجاح خارج المهرجانات، كي يتحمّس المنتجون لمخرجه". قيس قاسم يرى أن المشاركة "تتيح مساحات للتعارف وتبادل المنافع والمصالح، خصوصًا أن مهرجانات محلية وإقليمية تدعم مشاريع وأفلامًا في مراحل مختلفة من إنتاجها". بينما يُؤكّد أحمد شوقي أن الاختيار بحدّ ذاته "مُفيد"، فهناك مهرجانات تمتلك أسواقًا مؤثّرة يُمكن للمخرجين العرب إنجاز اتفاقات عمل عبرها: "عندما يتقدّم مخرج بمشروعه لجهة داعمة، وفي مسيرته المهنية فيلم سابق اختير في المسابقة الرسمية لمهرجان "كارلوفي فاري" مثلاً، هذا يمنحه أفضلية مبدئية على مخرج آخر لا أعمال لديه في مهرجانات، أو لديه أفلام لم يخترها مهرجان ما".

المساهمون