مهرجانات السينما في لبنان: وفرة مُثيرة للقلق

مهرجانات السينما في لبنان: وفرة مُثيرة للقلق

19 مارس 2018
من "يوم للستات" لكاملة ابو ذكري (فيسبوك)
+ الخط -
تزداد المهرجانات السينمائية عددًا في لبنان. الرغبة في الخروج من العاصمة بيروت مُلحِّة على مهتمّين بهذا النوع من النشاط السينمائيّ. يريدون استعادة "وهج" مدنٍ لبنانية معروفة، سابقًا، بصالاتٍ عديدة، تُشكِّل مناخًا سينمائيًا يُتيح للمشاهدين الـ"سينيفيليين" فرص مشاهدةٍ أفضل لأفلامٍ غير تجارية، أحيانًا، إلى جانب حركة تجارية لأفلام تجذب شريحةً أوسع من المتفرّجين. 
مدنٌ تمتلك تاريخًا سينمائيًا، يرتكز على سينمائيين يخرجون منها إلى فنون الصناعات السينمائية المختلفة، وعلى صالات تنافس صالات بيروت في زمن الغليان الفني والثقافي والاجتماعي، وعلى حركةٍ تتوزّع على المهرجان وأفلام "فن وتجربة" ونوادي السينما.

هذا زمن قديم. أهوال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) تُفرّغ مدنًا كهذه، شيئًا فشيئًا، من مضمونها الثقافي والفني والاجتماعي، بالإضافة إلى قضائها على مفهوم الصالات السينمائية القديمة، والمهرجانات المنفتحة على تجارب واختبارات وتساؤلات، والحيوية البصرية المتنوّعة الأشكال.

الانهيار مرير. لكن، هناك مدنٌ تحافظ على سلوكٍ سينمائي "مستفيد" من الحرب (بفضل ابتعادها النسبيّ عن تلك المدن) لإنعاش حالة سينمائية مطلوبة (جونية، 20 كلم شمال بيروت). مدنٌ تختفي الصالات من أزقّتها وفضائها الإنساني (طرابلس، عاصمة محافظة الشمال؛ وصيدا، عاصمة محافظة الجنوب). مدنٌ تعاند، لكنها لا تملك استمرارية متكاملة في هذا المجال (صُور والنبطية في الجنوب، وزحلة في محافظة البقاع). لكن المفارقة كامنةٌ في أن الانتعاش السينمائي لمدينة جونية مثلاً يُصاب بعطبٍ كبير، بعد أعوام على انتهاء تلك الحرب، ومع استعادة بيروت مكانتها الثقافية والفنية، وانتشار صالات السينما في مناطق أخرى فيها، غير تلك المعروفة سابقًا (شارع الحمرا). حتى أن "مهرجان السينما الأوروبية"، المنطلق في دوراته الأولى، مطلع تسعينيات القرن الـ20، في جونية نفسها، سينتقل إلى بيروت، ويحتلّ فيها مكانةً بارزة.

كلامٌ كهذا منبثقٌ من حالةٍ تشهدها مدنٌ لبنانية عديدة، مؤخّرًا. محاولات فردية بحتة لإيجاد متّسع للسينما في أمكنةٍ نابذةٍ لها سابقًا، لأسباب جمّة، كالحرب والتشدّد الاجتماعي والتربوي وسطوة الاستهلاك التجاري. فطرابلس تستعد، في الأسابيع القليلة المقبلة، لتنظيم الدورة الـ5 لـ"مهرجان طرابلس للأفلام"، بين 19 و26 أبريل/ نيسان 2018؛ بينما تؤسِّس جونية حيّزًا سينمائيًا، عبر مهرجانها الدولي الأول، المُقام بين 17 و22 يناير/ كانون الثاني 2018. اجتهادٌ كبيرٌ لأفراد منضوين في "إدارة مسرح اسطنبولي"، بهدف إحياء صالات سينمائية مقفلة في المدينتين الجنوبيتين صور والنبطية، رغم تعثّر واضح بسبب غياب الدعم، وفقدان الرغبة العامّة في أنشطة كهذه، لدى قطاعات سياسية وطائفية متحكّمة بتلك المحافظة اللبنانية.
النقاش مفتوحٌ على مسألتين اثنتين: الصالات والمهرجانات. المدن اللبنانية خارج بيروت غير مالكة للصالات، فهي مقفلة. مهرجانا طرابلس وجونية يتعاونان مع مؤسّسات ثقافية وفنية وأكاديمية خاصّة ومستقلّة، تمتلك قاعات "تصلح" لعرضٍ مستندٍ إلى تقنيتي "بيتكام" و"دي في دي"، وغيرهما. سؤال الصالات معلَّقٌ لارتباطه بالمال، رغم أن كثرتها موزّعة بين بيروت وضاحيتها الشمالية. سؤال المهرجانات مرتبطٌ، هو أيضًا، بالمال. لكن المهرجانات منتشرة، وبعضها القليل قديم ومستمرٌّ: "أيام بيروت السينمائية"، و"مهرجان بيروت الدولي للأفلام"، و"مهرجان السينما الأوروبية"، و"مهرجان الفيلم اللبناني". الإضافة الجديدة؟ "مهرجان بيروت الدولي لأفلام المرأة"، المُقامة دورته الأولى بين 13 و18 مارس/ آذار 2018، التي تُكرِّم المصرية إلهام شاهين، وتعرض أحد آخر أفلامها، "يوم للستات" لكاملة أبو ذكري.



إعلانات عن مهرجانات جديدة أيضًا: "مهرجان بيروت الدولي لسينما الطفل والعائلة"، و"مهرجان البترون لأفلام دول البحر الأبيض المتوسط" (تقع البترون على بُعد 54 كلم شمال بيروت). المشهد مثير للتساؤلات: أهذه نزوة عابرة، أو هوس بنجومية اجتماعية، أو رغبة في إيجاد "وظيفة" صالحة لعلاقات دولية؟ أم أن المسألة برمّتها متعلّقة، فعليًا، بالسينما وهمومها؟ أفلام المرأة. سينما الأطفال والعائلة. سينما البحر الأبيض المتوسّط. عناوين مُتَدَاولة في دول كثيرة، بعضها يصنع السينما. في لبنان، هناك صناعة أفلام، تبلغ جوانب كثيرة منها مرتبة راقية، فنيًا وبصريًا ودراميًا. لكن توجّهات مهرجانات كهذه منصبّة على "الدولي" أو "المتوسّطي". مهرجانات عديدة مهتمّة بسينما لبنانية جديدة وتجديدية. هذا صحيح. مهرجان أفلام المرأة يُخصِّص مسابقة مستقلّة بإنتاجات محلية. هذا حسنٌ. هذا مطلوب. هذا متوافق وأي توجّه سينمائي: انفتاح وتبادل خبرات وتواصل متنوّع.

السؤال الأبرز كامنٌ في الكثرة. العدد يكبر، وهذا مُقلِقٌ. الصالات اللبنانية كثيرة، لكن الأفلام المختارة المعروضة فيها قليلة، قياسًا بعددها، وغير متنوّعة، مع استثناءات متواضعة. جامعات كثيرة، لكن العلم والمعرفة يتراجعان. إعلام مرئيّ، حجمه أكبر من مساحة البلد. هذا مُقلِق.
ينتفي القلق مع تبيان ملامح المهرجانات الجديدة لاحقًا، ومدى جديّتها وقدرتها على ممارسة وظيفتها الثقافية والفنية.

المساهمون