داوود في بلاد الخوف

داوود في بلاد الخوف

09 فبراير 2018
يمتلك داوود عبد السيد موقفاً ضد نظام مصر (Getty)
+ الخط -
وقف في زاوية من المشهد، تاركاً للسياسيين إعلان الموقف من مشهد الانتخابات المصنوعة، ومن أربع سنوات مضت من عمر مصر، لم يكن داوود عبدالسيد يجهل ما ستجلبه عليه مشاركته في مؤتمر الحركة المدنية ضد حكم الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ووجود اسمه على بيانها الذي أثار غضب السلطة، فالرجل دأب خلال السنوات الماضية على إعلان معارضته وعدم رضاه عما يجري. 

في حواراته الصحافية، لم يكن يكتفي بحديث الفن كما يفعل غيره ممن يعتبرون أكبر الجهاد الآن الصمت، وسط موجات سعي زملائه للتقرب إلى السلطة. لكنه أعلن أكثر من مرة فخره بالمشاركة في ثورة يناير، وهاجم ما يصفها بالمؤامرة، وانتقد الأوضاع السياسية ومناخ البلاد والتضييق على المعارضة وكبت الحريات.

حضور المخرج المصري البارز في ميدان التحرير ليس علاقته الوحيدة بشبابه، تراه في المحافل الثقافية مكرما لمبدعي مصر، وفي صور محبيه، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي ينشر الأخبار ويشارك الآراء السياسية والمقالات الناقدة ويثني على أعمال أدبية رآها جيدة ومبشرة من دون أن يتحدث كثيرا، أو يملي آراءه على جيل آخر، وربما هذا ما ضاعف الحب والتضامن الذي أعقب خبر تحقيق النيابة في بلاغ يتهمه مع عشرة آخرين بالتحريض على قلب نظام الحكم.

لم يتراجع الرجل رغم ذلك، وخرج معلنا تمسكه بموقفه السياسي وحقه في إعلان مقاطعة انتخابات يراها أقرب إلى استفتاء شعبي، وساخرا مما جرى من جانب السلطات التي سارعت إلى إحالة بلاغ هزلي للتحقيق بصورة عاجلة ضمن محاولات ردع الداعين للمقاطعة والمعترضين على ما آلت إليه البلاد.

بروح شابة ووجدان مفكر لا يمل من المحاولة رغم إحساسه بقتامة الصورة، يراهن على شعب وجمهور يثق فيه أكثر من غيره، ويراه مجتمعا تظلمه السلطة وتحاصر خياراته، وتحرمه بالقمع من كل فرصة للتحرر وتجهض كل خطوة يقطعها نحو حريته.

يمتد وعيه وإدراكه لواقع وحاضر وطنه ليصل إلى رفض قاطع لتقديم عمل عن يناير في الوقت الحالي، معتبرا أنها لم تكتمل، وتحتاج إلى فترة أطول لكي يصبح تناولها سينمائيا ممكنا وقادرا على البقاء بدلا من التجارب التي سارع كثيرون إلى تقديمها ولم يبق منها شيء في الذاكرة.

بخياره هذا يقتل آخر فرصة له في سوق سينمائي تسيطر عليه الدولة والمحسوبون عليها، لكنه حسم الأمر سابقا وقال إنه لن يسمح لأحد بأن يفسد مسيرته وعمله أو يملي عليه حسابات السوق وتحكمات رؤوس الأموال، وما يراه احتكارا للصناعة.

يكره عبد السيد الرقابة، يصفها بالغباء ولا يهادنها، يعتبرها تعديا على الفكر، وقمعا غير مقبول، يساوي بين هذه الممارسات وبين التطرف والوصاية الدينية، إلا أنه يرفض مواجهة هذه الأفكار بالقمع الحكومي والممارسات التي لا تقل سوءا عنها، مفضلا أن تبقى سجالات فكرية يحسمها التطور والإقناع لا بقمع أكبر وأعنف.



يتمنى صاحب "أرض الخوف" لجيل يناير مصيرا غير ما لاقته أحلام جيله من إحباطات وفشل وخيانة دفعته إلى تقديم ذلك في فيلمه الذي يعاد اكتشافه من آن لآخر وبقراءات مختلفة ومتباينة. لم تختلط لديه الأحلام بالذكريات، ولم يفصل الزجاج بضبابية بينه وبين شارعه كما جرى لبطله "يحيى أبو دبورة".

رغم ذلك لا يملكه اليقين، في مواقفه وفي أحاديثه يتحدث كباحث وساع للمعرفة وراغب في تجاوز عجز المثقف وعجز المجتمع. يظهر في أحاديثه التلفزيونية القليلة البون الشاسع بين ما يؤمن به ويعتنقه من أفكار، وبين زملاء آخرين له لا تفلت من فمهم عبارة دون خلط بين السلطة والوطن، وأحاديث المؤامرات والاصطفاف.

في عصر كهذا، وواقع سياسي وفني كالذي تعيشه مصر، يستحق فنان بقدر داوود عبد السيد أن يبقى مشهد الوقوف في وجه الدكتاتورية سطرا ناصعا في مسيرته الفنية، محاطا بهذا التضامن الشعبي من محبي أفلامه وتلاميذه وآخرين ربما لا يملكون نفس الشغف بها، لكن ترجل فنان ليواجه هذا البطش مشهد سينمائي لا نراه في عالمنا العربي كثيرا.

المساهمون