الراب في تونس... صوتٌ يأتي من نهاية الزقاق

الراب في تونس... صوتٌ يأتي من نهاية الزقاق

04 فبراير 2018
أحد عروض الراب في مهرجان قرطاج 2017 (الأناضول)
+ الخط -
مع مطلع هذه الألفية، بدأت تتهادى إلى المسامع في تونس أغاني الراب بصوت خافت أشبه إلى المكتوم، فهي لم تتحول حينها بعد إلى أغاني كل الناس وهي ترسم ملامح نمط موسيقي فجّ ومنبوذ قلبًا وقالبًا من وجهة نظر النظام والذوق الاجتماعي العام. وعليه، فإننا كشباب يافع، وباحث عن التجديد، وشغوف به كنا نسمعه في الجلسات المغلقة خلف الأبواب والجدران، أو في نهاية الأزقة الخلفية؛ حيث لا مجال لأن يتلصص علينا من نخشى وشايته.

بعد مضي عقد من الزمن وعلى أثر ثورة يناير 2011، تفجّر هذا "الفن" الجامح، وانتقل إلى العلن، وتصدّر المشهد الموسيقي في تونس، ليحتل جميع المنصات الشرفية؛ أهمها منصة مهرجان قرطاج الدولي، الأعرق في البلاد.

من شخصيات مطاردة سياسيًا ومزدراة شعبيًا، تحول مغنُّو الراب إلى نجوم عالم الموسيقى ومطلب الجمهور الأول على موقع يوتيوب، ذلك أن أغاني الراب في تونس استأثرت لنفسها بالنصيب الأكبر من كعكة الإقبال الجماهيري.

هذه النقلة النوعية، يعزوها كثيرون إلى حالة الانتقال الديمقراطي التي تعيشها البلاد، ويضعونها كمُخرج من مخرجات ثورتها؛ ذلك أن هذه الأخيرة صارت المرجع والمرجعية لتفسير كافة التغيرات الحاصلة.

لكن، بنظرة تأملية بسيطة، ندرك أن الأمر يتجاوز التغير العلائقي إزاء هؤلاء المغنين وموسيقاهم من النبذ والتجاهل إلى الاعتراف، وحتى التبجيل، إلى تحوّل أكثر أهمية يمسّ جوهر هذه الموسيقى الصاخبة، أي مضمونها ورسالتها.

سمعنا الراب قبل الثورة سرًّا، ليس لأن جلّه تقريبًا كان فاحشًا ويتنزل في خانة الـ underground، وهي السمة التي جعلته مستهجنًا من قبل القائمين بالرقابة الأخلاقية -التي تعيش حالة صدمة وتأبى إلى الآن قبوله كفنّ- بل لأنه كان صوت الغليان الشعبي والبخار المتراكم تحت غطاء القدر، والذي سينفجر لاحقًا ليقلب كرسي الحكم بمن عليه.

الراب في بدايته لم يكن مجرد نمط موسيقي مستورد وغريب عن ثقافة المسرح التونسي فحسب، بل مثل برميل البارود المتدحرج بين ألسنة اللهب المتطاير من طبقات المجتمع الدنيا؛ ذلك أنه كتب لينقل همومها ويروي أوجاعها في سردية مستحدثة المحمل ومتجردة من كل رقابة معيارية.

ففي أغان مثل "العباد في تركينة"، الصادرة سنة 2005، يعبر صاحب الأغنية فريد إكسترانجيرو بكلام نابٍ ولغة فاحشة عن حالة البؤس والتردي التي يعيشها الشباب التونسي، والتي من كلماتها: "عباد في تركينة/ لحمهما مقطع بالسكينة. سيدي الحاكم يجينا/ يهز فينا يذل فينا. الفقر والهم والمشاكل/ حوت في حوت ديما ياكل. عباد تحت الصباط/ اللي يخرج ياكل الزلّاط".

عبارات يرافقها إيقاع صاخب، نستدلّ بها على نوع العنف الرمزي الذي يتعرض له التونسي البسيط والمقموع، القابع في أحياء الهم واليأس. عنف يفرضه عليه النظام السياسي عبر الأداة البوليسية القهرية، والنظام الاجتماعي الذي شبّهه بنظام البحر حيث يأكل الحوت القوي السمك الصغير للتدليل على حجم الفوارق الطبقية بين مكونات النسيج الاجتماعي الذي تعاني غالبيته الكبت الاقتصادي والنفسي.

هذه الأغنية تعتبر إلى حدّ اللحظة أيقونة الرّاب الثوري الذي أطلق رصاصة مباشرة في جسد النظام السياسي ومنظومة الحكم المبنية على أداة سلطوية تمارس سياسة القهر عبر جهاز أمني لحماية النظام من المواطن الجائع للحرية قبل الخبز.

حينها، ظل الراب وفيًا لمعتقدات منبعه الأُول في أميركا، كونه موسيقى الشارع ونبضه والقناة التي تنقل همومه ونقمه؛ فظهر مغنون آخرون على غرار بسيكو أم، غيتو أن، والجنرال، بأغان مثل "رايس البلاد" التي تنتقد الرئيس وتدعوه إلى الخروج إلى الشارع والنظر إلى حال الشعب الذي يموت من الهشاشة الاقتصادية وانعدام الأفاق المستقبلية؛ ما تسبب في اعتقال صاحب الأغنية "الجنرال" حينها.

لكن، لمّا كان منتظرًا من جرعة الحرية التي منحتها الثورة للتونسيين أن تضفي على مشهدية الراب جرأة أكثر في الطرح والمعالجة، سيما وأنه حظي أخيرًا بالاعتراف والاحترام حين لم ينس كثيرون أنه كان من مغذيات هذه الثورة، تراجع خطوات غير محسوبة إلى الوراء، ليتحول من موسيقى الـ underground التي تناشد الحرية وكسر أغلال التمييز والعنصرية والتفرقة، إلى موسيقى تجارية commerciale تنتج لتباع وتحقق العوائد المالية.
فالنظام السياسي الذي كان انتقاده وشتمه بمثابة المادة الخام "للرابورات" تحوّل كثيرون منهم على غرار الجنرال، وغيتو أن وكافون، إلى أداة دعاية سياسية في يد بعض الأحزاب عبر إحياء عروض مدفوعة لحشد الجماهير وتجميع الأنصار فترة الانتخابات.

التعاطي الإعلامي المكثف حول الراب، إضافة إلى ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي من خدمة النشر المجاني، مكنت مغنيه من اكتساب جماهير عريضة تحولت إلى سوق استهلاكية ضخمة؛ بحيث صار إرضاء أذواقها وتطلعاتها مدخلًا لتحقيق أرباح مالية مهمة وشهرة غير مسبوقة لمغنين كانوا تحت القاع.

بناء على تبني منطق السوق المحكوم بمبدأ العرض والطلب وحاجة الجمهور الواسع إلى مسكنات وحقنات تخدير لنسيان الواقع وإسقاط المشاكل الجمعية والذاتية في الدوائر الخلفية للاشتغال الفكري، بات الراب يبحث عن خلق جوّ من الترفيه عوض التأزيم، طالما أن الجمهور "عاوز كده"، ليعيد بذلك بناء خارطة عمله وفق معايير جديدة للنجاح، لا تبنى على حالة إشباع فني نابع من الشعور بالالتزام الذي يفرضه هذا الفن بتشكيل نفسه بناء على البيئة السياسية والاجتماعية الحاضنة، بل على متطلبات السوق الموسيقية الرسمية التي ترفض فنًا فاحشًا ورسالة ملتزمة و"نكدية" على الدوام.

ينظر كثيرون اليوم إلى نجاح الراب في تونس وحيازته على السواد الأعظم من جمهور الموسيقى كنتيجة لاخضرار شجرة حرية التعبير الوارفة، وفي أذهانهم أن الراب لا يزال يطرح خطابًا ثوريًا يستلزم أرضية آمنة من التحرر، متناسين أن أهم أغانيه اليوم هي "يا ليلي يا ليلا"، والتي لا تدور مواضيعها سوى على دعوات إلى عيش الانتشاء والتخلص من هموم الواقع.

تعميم لغة الشارع
تمكّن الراب من تعميم مصطلحات وألفاظ كانت حبيسة بيئات اجتماعية معينة، فأدخلها صلب الخطاب اليومي في الشارع التونسي. صارت عبارات من قبيل "عايشين كالزبلة في بوبالة"؛ أي نعيش كالقمامة في حاوية الفضلات، توصيفًا مرجعيًا في رسم ملامح الوضع المتأزم للمواطن التونسي. لم يتردد حتى الرئيس التونسي الحالي من الاستشهاد بها في أحد حواراته التلفزيونية فترة حملته الانتخابية.

المساهمون