في رحيل علي أبو شادي... النقد في خدمة السينما

في رحيل علي أبو شادي... النقد في خدمة السينما

19 فبراير 2018
علي أبو شادي (فيسبوك)
+ الخط -
قبل أسابيع قليلة على الاحتفال بالذكرى الأولى لغياب الناقد السينمائي المصري سمير فريد (1943 ـ 2017)، في 4 إبريل/ نيسان 2018، يرحل ناقدٌ سينمائيّ آخر، يشترك وفريد في وضع لغة نقدية مُرافقة لمسارٍ سينمائيّ متنوّع، ومُعاينة لأحوال بيئة وأناسٍ وحكاياتٍ، في أزمنة مضطربة في السياسة والاجتماع والثقافة والفنون والاقتصاد. في 16 فبراير/ شباط 2018، توفّي علي أبو شادي (1946)، أحد أبرز أبناء جيله النقديّ، وأكثرهم "تورّطًا" في مناصب رسمية، تعجز ـ غالبًا ـ عن تعطيل حسّه النقديّ المنفتح والديمقراطي، رغم ضغوط المناصب ومتطلّباتها الرسمية الجمّة.

ذلك أن علي أبو شادي ـ القادم إلى الكتابة النقدية، أولاً وأساسًا، من دراسة الآداب والنقد معًا ـ يمتلك مكانةً له في جيلٍ ـ شاهدٍ (بالمعنى الإنساني والأخلاقي والثقافي العميق) على تحوّلات جمّة في تاريخ بلدٍ يتبوّأ، أعوامًا طويلة، قيادة أمّة عربية، وهي (التحوّلات) جزءٌ من التاريخ الحديث لتلك الأمّة أيضًا. جيل ـ شاهد، يمزج رغبة عميقة في التغيير والإصلاح والكشف، في شؤون العيش اليومي، بتنبّه واعٍ لإمكانيات الصورة السينمائية إما في مشاركة فعّالة في تحقيق (أو محاولة تحقيق) رغبة كهذه، وإما في إنجاز نتاجاتٍ تعكس شيئًا من نبض الناس والمجتمع، وتُقدِّم صُورًا عن يوميات عيشٍ وأحلامٍ وعلاقات، وتطرح أسئلة عن اللغة السينمائية وامتداداتها في أحوالٍ عامّة، وحكاياتٍ فردية.

هذا نابعٌ من همّ مشترك بين أبناء جيل نقديّ، يلتزم الكتابة في السينما، رغم اهتمامٍ موسّع بنتاج الثقافة والمعرفة؛ ويلتزم قواعد المتابعة الحسّية لمسارات تلك السينما، عبر كتابةٍ تحافظ على بساطتها وسلاستها وكلاسيكية مفرداتها وأشكال تحليلها، رغم أن محطّات عديدة في المسارات تلك تشهد تطوّرًا حقيقيًّا في اللغة والجماليات وأنماط التعبير.

إلى ذلك، لن يكون سهلاً الفصل بين أنماط العمل التي اختبرها علي أبو شادي في مراحل مختلفة من التاريخ الحديث لمصر. فرغم أن الصفة الأبرز له كامنةٌ في اشتغاله النقديّ، إلّا أن وظائف عديدة له وضعته في مواقع متقدّمة في المشهد السينمائيّ المصري، وجعلته في مواجهة مباشرة مع مسائل عملية، كالمهرجانات والرقابة ومؤسّسات حكومية معنية بالشأنين الثقافي والفني.
كما أنه لن يكون سهلاً التغاضي عن جانبه الإنساني البحت، في سيرةٍ ممتدّة على نحو 45 عامًا، أخذته إلى الصحافة والنقد بعد تخرّجه من "جامعة عين شمس" (ليسانس آداب) و"المعهد العالي للنقد الفني ـ أكاديمية الفنون" (1975)، ودفعته إلى مناصب رسمية مختلفة، اجتهد للتوفيق ـ فيها ـ بين مطالب الوظيفة الرسمية، والتزامه جمالية الإبداع الفني والسجال الثقافي والنقد السينمائي، في بلدٍ منذورٍ لحكمٍ سياسي يميل، دائمًا، إلى العسكر، وإنْ يعجز عن توفيقٍ كهذا، أحيانًا عديدة (المجلس الأعلى للثقافة، صندوق التنمية الثقافية، قطاع الإنتاج الثقافي، المركز القومي للسينما، الهيئة العامة لقصور الثقافة، جهاز الرقابة على المصنّفات الفنية، إلخ.).



لكن علي أبو شادي ـ واضعُ نصٍّ نقديّ يغوص في تاريخٍ عريقٍ للسينما المصرية أولاً، وفي مسارات سينمات عربية مختلفة ثانيًا ـ يبقى أحد رموز جيلٍ ثقافي عربيّ، انبثق نصّه السجاليّ من هزيمة حرب الأيام الـ6 (1967)، وتفتّح وعيه النقديّ في المرحلة الفاصلة بين تلك الهزيمة و"حرب أكتوبر" (1973)، مثابرًا على خوض معارك الإبداع والتأريخ، لصون بعض الذاكرة من الاندثار في النسيان، ولتحصين المُشاهدة والمعاينة اليومية في كتاباتٍ تؤرّخ وتُناقش، في النتاج والمواضيع وحركة الإنتاج، كما في علاقة النتاج السينمائي المتنوّع هذا بالسياسة والاجتماع والانفعالات والمرويّات والحالات.

لائحة أعماله طويلة، كعمرٍ أمضاه في مواكبة تحوّلات مختلفة في بلده ومحيطه العربيّ، وفي اشتغالٍ فعّال يُعيد قراءة العمل، ويُقدِّمه بلغة تختلف عن تلك التي تصنعها الصورة. فهو، بهذا، يصنع معادلاً مكتوبًا لنصٍ بصري، من دون أن يتغاضى عن مراجعة شبه دائمة لإرثٍ غنيّ من الأعمال المصرية. إذْ إنّ غلبة السينما المصرية على كتاباته واهتماماته ومتابعاته واضحةٌ في مؤلّفاتٍ، يعود بعضها إلى "ماضي حكايات جميلة"، أو إلى "انقلاب أقدار" أفضى بالسينما المصرية إلى حالة ركودٍ، قبل أن يهبّ سينمائيون عديدون إلى نجدتها، بتحقيق أفلامٍ أخرجتها من ركودها هذا، بإدخالها إلى وقائع العيش اليومي للفرد المصريّ، ولأشيائه وتفاصيله وانفعالاته ورغباته وأحلامه وكوابيسه (الواقعية السينمائية الجديدة، في ثمانينيات القرن المنصرم)؛ ويواكب بعضها الآخر حركة سينمائية تجديدية دائمة، منذ تسعينيات القرن نفسه لغاية الآن.

همومه الثقافية الأساسية منصبّة على الحراك الإبداعي في مصر، أفلامًا وأسئلةً وشخصياتٍ (له كتابٌ ممتع عن الممثل الراحل كمال الشناوي، مثلاً) ومهرجاناتٍ (له فضلٌ كبيرٌ في إعادة النبض ـ السينمائي والجمالي والحيوي والفني ـ لـ"مهرجان الإسماعيلية الدوليّ للأفلام التسجيلية والقصيرة"). وله كتابات عديدة عن السينما التسجيلية، من دون أن يتغاضى، نقديًا، عن ارتباك العلاقة بين السياسة والمجتمع والمؤسّسات من جهة أولى، والاشتغال السينمائيّ من جهةٍ ثانية.
هذا كلّه معطوفٌ على سماحة نفس، وبراعة نكتة، وسرعة بديهة في التقاط اللحظة وتحويلها إما إلى نقاشٍ مفيد، وإما إلى جلسة ضحك ساخر وبديع.

دلالات

المساهمون