الأراجوز المصري: الدمية تحتضر منذ 100 عام

الأراجوز المصري: الدمية تحتضر منذ 100 عام

04 ديسمبر 2018
ثمة عروض شعبية وأخرى كانت للعائلات الأرستقراطية (ماركو لونغاري/Getty)
+ الخط -
في أثناء زيارته للقاهرة سنة 1911، تنبأ المستشرق الألماني كورث بروفر بأن ينقرض فن الأراجوز، قائلاً: "ليس لهذا التقليد دواما". ثم بعد أكثر من قرن ها هي اليونيسكو تُدرج الأراجوز المصري ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي الذي يحتاج إلى صونٍ عاجل. 

لفت نظر بروفر (1891-1950) في مشاهداته أنه لا يوجد غير لاعب أراجوز واحد، يدعى أحمد علي الحضري، فذهب إليه حيث يعيش في حي الترجمان في القاهرة، وأخذ يصف مسرحه ويدوّن تفاصيله، وقد طلب المستشرق الألماني من الحضري أن يُملي عليه نصاً (سيناريو) لعرض للأراجوز، يعد إلى الآن أقدم وثيقة تحتوي نصاً لعرض أرجواز.
ظلّ الأراجوز يحتضر طوال قرن من الزمان بسبب العديد من الظروف السيئة التي تتكالب عليه، والتي يقول تقرير اليونيسكو، الذي صدر مؤخراً، إنها تتألف من عوامل اجتماعية وسياسية وقانونية وثقافية؛ ومن ثمّ فقد تضاءل عدد الممارسين لفن الأراجوز الذين هم على قيد الحياة.


ما هو الأراجوز؟
وفقاً للتعريفات المعجمية؛ الأراجوز هو دمية قفازية يحركها بيده لاعب متخصص، يقدم من خلالها عرضاً تمثيلياً غنائياً بسيطاً يمتاز بالفكاهة والنقد اللاذع، وهو في العادة حوار مفكك يعتمد على القفشات الساخرة من الأراجوز ضد خصومه أكثر من اعتماده على الحبكة القصصية.
تطلق كلمة أراجوز على اللاعب نفسه بسبب الدور الذي يؤديه في العرض. فهو يقوم بدور البطولة المطلقة في الأداء والحوار. ويمتاز الأراجوز بصوته العالي الحاد، الذي يبدو كأنه خارج من أنف مزكومة، تساعده في ذلك آلة صغيرة في حلق فمه يسمونها الأمانة، وأهم سماته الشكلية ذلك الطرطور المدبب الذي تلبسه الدمية فوق رأسها.
ومسرح الأراجوز مكون من كشك صغير، يختبئ في جزئه السفلي مُحرك الدمية، حيث يلبسها في يده ويحركها بين أصابعه، ويصدر أصواته الخاصة، كما يلبس اللاعب في يده الأخرى الممثل المساعد، ويقوم بتغيير صوته ليُظهر تعدد أطراف المشهد المسرحي. ومن الشخصيات الثابتة في عروض الأراجوز حتى منتصف القرن السابق: الجندي التركي الجعجاع الفاسد المتجبر الذي يتكلم بلكنة عربية غريبة، والنوبي الساذج، والقس الإيطالي أو اليوناني، والمتسول سليط اللسان، والمرأة اللعوب التي تعيش في حي الأزبكية.


أصول اللعبة
لفظ الأراجوز إذ صار ينتمي للعامية المصرية؛ فإن أبعد ذكر لهذا اللفظ هو كتاب "وصف مصر" لبعض علماء الحملة الفرنسية (1798-1801)، بعدها ورد في كتابات مستشرقين آخرين مثل إدوارد وليم لين (1801-1876) الذي وصف الفن ورصد اهتمام الناس فيه. ويرجح كثيرون أن أصل الأراجوز عثماني يطلق عليه في تركيا "قرة قوز"، بينما يدافع عن مصريته آخرون يرون أنه يعود إلى عهد الفراعنة، وأنه أخذ حديثاً من التركيب اللغوي (أرا- جوز) أي: أرى اثنين، وهما بطلا العرض، إذ لا يظهر من الكشك المسرحي غير دميتين قفازيتين يحركهما اللاعب المختفي بيديه؟
وهذا الاختلاف يضاف إليه الزعم بأن الأراجوز فن أوروبي عرفه المصريون عند قدومه مع الحملة الفرنسية (1798-1801)، إذ عن طريقه أراد المستعمر تخدير الشعب بجرعات تمثيلية مضحكة، حاول من خلالها أن يُلقي في روع المصريين أنهم لن يستطيعوا الاستغناء عن الفرنسيين، وأنهم جاؤوا إلى مصر من أجل إنقاذ الناس وإعانتهم.
قد يدافع أصحاب هذا الرأي عنه لعدة أسباب؛ منها: انتشار فن الأراجوز بشكل متطور في أوروبا منذ القرن الـ 18، وخاصة لدى الشعب التشيكي. وأن ورود اسم الأراجوز في الثقافة المصرية لم يعرف قبل الحملة الفرنسية، وأن السخرية من العنصر التركي كانت جزءاً ثابتاً في جميع مسرحيات الأراجوز القصيرة، لكن ما ينقض هذا الزعم هو أن علماء الحملة الفرنسية القصيرة تعرضوا في كتاباتهم لعروض أراجوز شاهدها الفرنسيون في القاهرة دون أن يزعموا أنهم من أتى بهذا الفن إلى القاهرة.

شعبي وأرستقراطي
تشير الكتابات القليلة حول الأراجوز إلى أن صناع هذا الفن كانوا من الرّحالة، يجوبون البلاد بمسرحهم الصغير من أجل الحصول على أجر قليل مقابل إمتاع الجمهور (النظارة)، وهو ما دفعهم إلى مغازلة نوعين من الجمهور، أحدهما شعبي؛ يتمثل في أبناء الريف والأقاليم المطحونة تحت نير الفقر والضرائب العثمانية ثم تحت الاحتلال الإنكليزي، والآخر يتمثل في الطبقة الأرستقراطية التي تستطيع بأموالها أن تدفع أجراً مجزياً للاعب الأراجوز كي يأتي بمسرحه إلى حديقة القصر ليشاهد عرضه أبناء الأثرياء ذوي الأصول التركية. وهذا ما يفسر وجود العديد من تلك العروض باللغة التركية، كما ذكر المؤرخون، ولعله كان في تلك العروض يسخر من المصريين الفلاحين وهو خلف أسوار تلك القصور العالية.
أما الأراجوز الشعبي؛ فلم يكن له بدّ من أن يهون على الناس مصائب الفقر وأهوال الاستبداد، ولذلك اتسم بتلك الجرعة الزائدة والمتفلتة من النقد الاجتماعي والسياسي، وهي طريقة في الأداء لم ترق لبعض الرحالة الذين مروا على القاهرة في عصر محمد علي باشا، مثل السير ويلكنسون (1797-1875) الذي قال: "في هذه الدعابات التهكمية لم يرحم (القرة قوز) لا المنزلة الاجتماعية ولا السن ولا الجنس... كان مجون هذه العروض الشيطانية فاضحاً إلى حدّ أنه كان يصدم جمهوراً إغريقياً رغم تعوّده على مسرحيات أريستوفانيس". كما يصفها المبشر الألماني هاوسمان في آواخر القرن التاسع عشر بأنها قد بلغت في هزليتها ولغتها حداً من الإسفاف لدرجة تعبئتها بالنكات المبتذلة والإيماءات غير اللائقة.



الأراجوز في السينما
باعتباره أحد المصادر القليلة للفرجة والمتعة؛ قاوم الأراجوز طويلاً من أجل البقاء لكونه من أهم مصادر تسلية أبناء المناطق الفقيرة؛ فكان يزور القرى والنجوع بشكل دوري، ويذهب إليه الناس أطفالاً ونساء ورجالاً في الأسواق والموالد، ويستدعيه الميسورون إلى حفلات الزفاف والمناسبات الاجتماعية الأخرى.
ومع ظهور السينما والراديو والتلفزيون، وقف الأراجوز باستحياء في الشارع بجوار "خيال الظل" و"البيانولا" و"القرداتي" خائفاً يترقب مصيره الحتمي بالإهمال والزوال، غير أن تأخر وصول التلفزيون إلى القرى النائية والنجوع البعيدة في الدلتا والصعيد؛ أبقى "الأراجوز" على قيد الحياة زمناً طويلاً نسبياً.
وقد شهدت الأعمال السينمائية ظهوراً عرضياً غير مؤثر لفن الأراجوز، لكنه على الأقل ظهور يوثق وجوده في زمن السينما، كما ارتبط بعض الفنانين المشاهير بصناعة الأراجوز مثل "محمود شكوكو" الذي نقله من الكشك الخشبي إلى خشبة المسرح.
هناك من الأعمال التي اعتمدت جوهرياً على فن الأراجوز، أبرزها فيلم "الزوجة الثانية" (1967) لصلاح أبو سيف؛ فقد كان فضل الأراجوز على مسار الأحداث واضحاً، وربما مفصلياً، فالفلاحة المقهور (فاطمة) تشاهد عرض الأراجوز، وفي العرض يحاول شيخ الخفر أن يراود حبيبة الأراجوز عن نفسها، فتحتال الحبيبة وتسلب شيخ الخفر عصاه بمكر ودهاء، ثم تهجم عليه بمساعدة الأراجوز ويضربانه بعصاه المسلوبة، بعد أن تقول جملتها: "دا متخلقش اللي يقدر يغلب مَرَة"، وهي العبارة التي ستنتبه لها (فاطمة)، وستتخذها منطلقاً للمكر والحيلة للانتقام من العمدة الجائر الذي سلبها من زوجها الحبيب (أبو العلا).
أما فيلم "الأراجوز" (1989) الذي أخرجه هاني لاشين وقام ببطولته عمر الشريف؛ فيجسد محنة الأراجوز "محمد جاد الكريم" الذي يجتهد في توعية الناس ومحاربة الفساد من خلال عروضه البسيطة بالقرية، لكنه يصطدم بالمجتمع وتغيراته، وأبرزها الابن المتمرد الذي يسخر من مهنة والده، والرأسمالي النافذ الذي يخدع البسطاء بالوعود الكاذبة، ويسعى إلى أن يجمع في قبضته السلطة والمال معاً على حساب الشعب الفقير!



ومضة الإنقاذ
قوبلت محنة الأراجوز بعدد من محاولات الإنقاذ المعاصرة؛ أبرزها محاولة نبيل بهجت الذي أسس فرقة ومضة "للأراجوز وخيال الظل" سنة 2003، وكان دافعه في ذلك هو استعادة لقطة راسخة من ذكريات الطفولة عن رجل (عجوز) كان يجوب القُرى ويقدم عروضه الممتعة. بدأ بهجت رحلة البحث عن الأراجوز وأصحابه في الشوارع والموالد متتبعاً أثر آوخر لاعبي الأراجوز الأحياء؛ فوقع بهجت على عم حسن خنوفة وعم صابر المصري. رحل عم حسن فورث منه بهجت عرائسه وحكاياته، واستمر معه عم صابر بخبرته لكي يقدم العروض ويعلم أجيالاً جديدة هذا الفن العريق. وكان عم صابر المصري (79 سنة) يحكي أن ارتباطه بهذا الفن يعود لأكثر من نصف قرن، حين شاهد الفنان محمود شكوكو لأول مرة وهو يقدم عرضاً مضحكاً للأراجوز في مسرح صيفي مكشوف في حي "الكيت كات" بالقاهرة.

دلالات

المساهمون