يا توفيق الحكيم... الأكسجين لكل أنف

يا توفيق الحكيم... الأكسجين لكل أنف

16 ديسمبر 2018
(Getty)
+ الخط -
يكتفي عنوان مسرحية "الطعام لكل فم" للكاتب المصري توفيق الحكيم (1898 - 1987) بذاته، كما لو أنه ينوب عن المسرحية، قائلاً كل شيء.

هناك شخصية خيالية، أو حُلمية في المسرحية التي نشرت عام 1963، ستعطينا الحل لمعضلة الجوع.

بالتكنولوجيا، نستطيع القضاء عليه، ويستطيع كل فم أن يأكل مجاناً، كما تتنفس الأنوف مجاناً.

تسأل عطيّات: لكن الهواء كثير. فتجيب سميرة: والطعام يجب أن يكون كثيراً.

الهواء كان خارج أي نقاش بشري، منذ بدء الخليقة. إنه موجود بكثافة لا يشك فيها. لكنه في إعلان تجاري لشركة هندية يختصر الحال، إذ يقول:

هواء نقي من الهيملايا. عشرة لترات هواء. 160 بخّة. كل بخّة ثانية. السعر: 550 روبية. التوصيل مجاني.

وهذا لا يلبي حاجة المستهلك الهندي، وخصوصاً في نيودلهي إحدى أشد مدن العالم تلوثاً، فتحضر شركة أسترالية لبيع الهواء النقي في عبوات زنة 7.5 لترات بسعر 1500 روبية.

لم يعد من "يبيع الهواء" هو ذلك الفهلوي والنصّاب الذي يخدع ويحلب جيوب الناس، إنما أصبح شركات أنيقة، ارتبطت مصلحتها وربحها بالموت، والخوف من الموت.

منذ ما يزيد على عشر سنوات انتبهت وسائل الإعلام إلى فيلم "Spaceballs" للمخرج ميل بروكس وصدر عام 1987.

الفيلم كوميديا خيال علمي، أراد بروكس فيها أن يمازح الأفلام الجادة، والملاحم السينمائية المليئة بكائنات فضائية متجهمة تهاجم الأرض.

في فيلمه، هناك كوكب درويديا، وهناك أوغاد فضائيون، يمكن تسميتهم بقطّاع الفضاء، وهؤلاء لهم زعيم يدعى سكروب يريد الاستيلاء على الغلاف الجوي لدرويديا.

وللضغط على رئيس الكوكب يأخذون ابنته رهينة، ويهددون، إذا لم يحصلوا على الرقم السري للغلاف الجوي، فإنهم سيعيدون أنفها إلى حاله قبل عملية التجميل. ويضحك المشاهدون.

المشهد الأبرز الذي يستعاد، هو زعيم الأوغاد سكروب، الذي يفتح علبة، كعلبة المشروب الغازي مكتوب عليها "هواء نقي معلّب في درويديا".. ويبدأ بشمّها.

بعد 31 عاماً من فيلم خفيف الدم، لم يعد الجوع وحده، فقد قطع الناس شوطاً بعيداً في شرب الماء المعبأ بقوارير، وما هي إلا سنوات مقبلة حتى يصبح الهواء سلعة رائجة في الدكاكين الصغيرة.

ها نحن أمام موت بلا قيمة، تديره دول صناعية لها حق تلويث الهواء بحصص معينة. وإذا لم تكفها، تشتري حصص دول فقيرة ومسكينة وفاسدة ليس لديها صناعات، ولكنها تجتهد في تلويث عواصمها على الأقل، لأن الفساد والمسكنة، من رموز الدولة العليا، كالعلم والنشيد الوطني، والدستور.

أما أميركا، زعيمة الملوّثين، فهي ترفض أصلاً التوقيع على أي ورقة، تمس حقها المقدس في إطلاق العوادم والغازات السامة والسخام.

يقتل تلوث الهواء، بحسب منظمة الصحة العالمية، سبعة ملايين شخص سنوياً، من بينهم 600 ألف طفل، معظمهم يعيشون في بلدان فقيرة في آسيا وأفريقيا، وتسعون في المئة من الناس على كوكب الأرض يتنفسون هواء معبأ بالسموم، يقول تقرير المنظمة.

أغلب ضحايا التلوث في دولتي الصين والهند، اللتين تبشران الأمم بأنهما على التوالي ستكونان أكبر اقتصادين في العالم عام 2050، بتلويث متصاعد ورقابة متدنية.

والصيني مثل جاره الهندي يشتري عبوات الهواء المحلية من المحميات الطبيعية الصينية، ويستورد من الخارج. أحد الإعلانات يقول: يمكن استخدام كل عبوة لدقيقتين مستمرتين أو خمسين بخّة.

هناك مدن كثيرة ملوّثة، لكنّ شركات بيع الهواء في بريطانيا وكندا والسويد وأستراليا وغيرها، ترى الإغراء كلّه في سوقي نيودلهي وبكين، ذواتي الكتلة البشرية الهائلة.

الأخبار التي تتوالى عن مقاهي الأكسجين، أو أرجيلة أكسجين، أو جلسات أكسجينية مع مساج، حتى الأوزون المقلي بالزيت، كل ذلك يبدو طريفاً، بوصفه نوعاً من الدلع، والترفيه عن المزاج.

بيد أن البحث عن الأكسجين في مدن تنعدم الرؤية فيها بسبب التلوث، لا الضباب، أمر ليس أقل من مأساوي.

وأنت لا تستطيع اللجوء إلى الجبال التي بطعم الطبيعة البكر، لأنك مع الملايين الآخرين، هنا بيتك ورزقك ومدارس أبنائك، والمستشفى والمحاكم والبرلمان (إن وجد)، كلها تستنشق الهواء ذاته.

بحسبة بسيطة طرحها مؤخراً موقع "الهند اليوم": إننا نستنشق ما بين ثمانية إلى عشرة لترات من الهواء في الدقيقة. وإذا كانت العبوات ذات السبعة أو العشرة لترات تكلف مئات الروبيات، هذا يعني أن استنشاق الهواء النظيف أمر مكلف، يستحيل تحقيقه لمعظمنا.

من هم "معظمنا"؟ كم سيصبح عددنا بعد دقيقة من الآن؟

دلالات

المساهمون