"مهرجان القاهرة السينمائي الـ40": خراب مدينة

"مهرجان القاهرة السينمائي الـ40": خراب مدينة

28 نوفمبر 2018
مريهان مجدي في "ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح(الملف الصحافي)
+ الخط -
3 أفلام مصرية حديثة الإنتاج تُشارك في الدورة الـ40 (20 ـ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". مواضيعها منبثقة من راهنٍ مفتوح على وقائع عيش يومي خانق في مدينة معقودة على مواجع وانكسارات ورغبات. أساليبها تتناقض فيما بينها، فتُشكِّل بتناقضاتها البصرية مساحة أوسع لمعاينة حراكٍ إنتاجيّ شبابيّ يرفد النتاج السينمائي العربي بجديدٍ، يختلف حجمه وأهميته ومدى تأثيراته بين فيلمٍ وآخر. 

"ليل/ خارجي" لأحمد عبدالله السيّد (المسابقة الرسمية) انعطافة في مزاج سينمائي يعتاده مخرج "هليوبوليس" (2010) و"ميكروفون" (2011). انعطافة تخوض تجربة الاختلاف، شكلاً على الأقلّ، في بحثٍ سينمائيّ عن مفردات أخرى لقول غليان مصري راهنٍ، عبر نماذج مستلّة من اجتماعٍ مُصاب بألم وتمزّق وآمال معطّلة. "لا أحد هناك" لأحمد مجدي (أسبوع النقّاد الدولي) أول روائي طويل لشابٍ يمثِّل ويُشارك في تحقيق أفلام، ويرغب في أول خطوة إخراجية تبدو متعثّرة، لأنّ الرمز المعتمد في بداية السرد يتوه في دهاليز وعوالم شبابية غارقة في انهياراتها، ومحطّمة في انشغالاتها اليومية. "ورد مسموم" لأحمد فوزي صالح  (آفاق السينما العربية) محاولة إضافية لإثراء التجديد، البصري والأسلوبي والجمالي، في صناعة صورة سينمائية مصرية أصيلة في معاينتها أحوال بيئة وأفراد.

التناقضات المختلفة بين الأفلام الـ3 مثيرة لاهتمامٍ نقدي، لن يتغاضى عن أهمية مقاربة كلّ واحد منها بمنأى عن الآخرَين. تناقضات تساهم في تمعّن إضافي في مسار سينما شبابية ناشئة في بلدٍ عريقٍ في صناعته السينمائية، وهو مسار معقود على محاولة ابتكار المختلف، المتلائم وطبيعة التبدّلات الحاصلة في الاجتماع والوعي والثقافة والتفكير والتقنيات. والابتكار هذا غير معنيّ بخروج نهائي على تاريخ وذاكرة، فهمّه الأساسي منصبٌّ على اكتشاف قدرات فردية على صناعة الصُوَر، وعلى آليات سرد الحكايات ورسم الحالات، وعلى موقع التجديد في مواكبة الحاصل أو التأمّل فيه.

المقارنة غير نافعةٍ كلّيًا، فهي تؤدّي إلى تفضيلات تُسيء إلى اشتغالات كلّ مخرج وفريق عمله. لكنها نافعةٌ في متابعة وقائع مهرجان سينمائي يُقام في مدينة تعاني أهوال العيش في الارتباكات والمصاعب والخراب. فاختيار المهرجان أفلامًا شبابية ـ يمتلك كلّ واحد منها حدًّا من التغيير الأسلوبي في مساءلة الراهن (مع التنبّه على الفرق الشاسع بين الأفلام على مستوى حضور هذا الحدّ) ـ يعكس رغبةً ما في إيجاد حيّز لهذا التجديد في مهرجان عريق، ويُذكِّر باختيار سمير فريد لـ"باب الوداع" لكريم حنفي، للمشاركة في المسابقة الرسمية للدورة الـ36 (9 ـ 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014) للمهرجان نفسه. فالتجديد السينمائيّ، المحتاج إلى متابعة دقيقة لمفرداته وآلياته وأساليبه ونتائج اختباراته، متمكّن من تحريض البعض على التنبّه إليه، وعلى إتاحة فرص أمامه للتواصل مع مشاهدين معنيين بهذا التجديد.

سمير فريد (1943 ـ 2017) حاضرٌ في أحد تلك الأفلام، بإهداء "ليل/ خارجي" إليه. إهداء يريده أحمد عبدالله السيّد تحية لناقد منتبه إليه منذ بداياته السينمائية، وداعمٍ لاختباراته، ومرافق لمساراته. لمحمد حفظي، بصفته منتجًا مستقلاً قبل تولّيه رئاسة الدورة الـ40 هذه، فاعلٌ في محاولات دؤوبة لتفعيل هذا الحراك التجديدي، المنصرف حاليًا إلى معاينة يوميات مصرية في راهنٍ يتخبّط بين واقعٍ يزداد سوءًا وانعدام أفق وتوهان قاسٍ في دوائر مقفلة تحتوي على إحباطات. "ليل/ خارجي" يكشف شيئًا من اهتراء بيئة ومكان ونفوس، في ظلّ انقلاب الأقدار المنبثق من غليان الأعوام الـ8 السابقة على الأقلّ، رغم أنه يبتعد عن الفعل الثوري ونتائجه، متوغّلاً في أسئلة الفرد عن علاقاته وانفعالاته ومشاغله وأهوائه. وهذا حاضرٌ في "لا أحد هناك"، لكنّ المأزق كامنٌ في البناء الدرامي المرتبك والضائع بين تمسّك برمزية ما للزرافة وانعدام ترجمة بصرية وإنسانية وجمالية للرمز في السياق الدرامي والشخصيات وعلاقاتها ومشاعرها. أما "ورد مسموم" فمنفصلٌ عنهما، باختياره مكانًا محدّدًا وشخصيات محدّدة وفضاءً محدّدًا (عالم المدابغ وتفاصيله ويومياته وناسه وحكاياته وأحواله) لتشكيل متتاليات سينمائية تعكس قسوة واقع وبشاعة ظروف وتمزّقات ناس، بكاميرا تنهل من التفاصيل الدقيقة والجانبية، ومن التعابير الصامتة والحادّة، لبناء عمارة سينمائية عن حقائق وحالات.
في مقابل حضوره الطاغي ـ ككيان إنساني وعمراني واجتماعي وحياتي ـ في "ورد مسموم"، يتراجع قليلاً المكان ـ كشخصية أو تعبير أو حالة ـ في "ليل/ خارجي" و"لا أحد هناك"، وإنْ يبثّ ملامحه في تجوال الكاميرا في أزقّته ودهاليزه وجغرافيته وبعض تفاصيله. فالمكان، بقدر أهميته البصرية والجمالية والإنسانية في فيلمي "ليل/ خارجي" و"لا أحد هناك"، غير متحوّل إلى كيان أساسي/ شخصية أساسية، كما في "ورد مسموم".

تجوال الكاميرا في المكان في هذين الفيلمين أساسيّ وحيوي ومراقب دقيق لامتداد المدينة في نفوس أفراد وأرواحهم وأنماط عيشهم. تجوال يُساهم في فهم شخصية أو في تبيان ملمح أو في التنبّه إلى حالة أو علاقة. هذا مختلف عن "ورد مسموم"، إذْ يتحوّل المكان إلى شخصية درامية متكاملة الأوصاف والحضور والتفاعل والبوح.

3 شخصيات في "ليل/ خارجي" تلتقي معًا في رحلة ليلية مفتوحة على تناقضات الانفعال والتفاصيل، وعلى تحدّيات وصدامات، تكشف كلّها بعض خرابٍ يعتمل في حيّز مكانيّ محطّم. شخصيات "لا أحد هناك"، إنْ ينفصل الثقل الرمزيّ عن المتتاليات الخاصّة بها، تهيم في ليل المدينة بحثًا عن خلاصٍ مؤجّل أو إنقاذ مؤقّت. أما شخصيات "ورد مسموم"، فتغوص داخل انكساراتها وملاذاتها المعطّلة، سعيًا إلى خروج مغيَّب أو بقاء مدمَّر.

المساهمون