القصّة الأخرى

القصة الأخرى

21 نوفمبر 2018
وارنر هرتزوغ وميخائيل غورباتشوف: حوار السينما والتاريخ (فيسبوك)
+ الخط -
يرسم الوثائقي ملامح فرد ومعالم بيئة. يُفكِّك تاريخًا، ويتجوّل في راهن، كمن يسعى إلى اكتشاف المجهول في المُقبل من الأيام. يضع الكاميرا على الحدّ الأخير للهاوية كي يُحصِّن الحكايات من البهتان، فتُصبح الحكايات المحصّنة ذاكرة الماضي، قبل أن تجعل من الحاضر "ذاكرة المستقبل". يكشف المخبّأ في الذات، ويُعرّي الفرد من أقنعته. يسأل ولا يقتنع بإجابة حاسمة. يحرِّض ولا يكتفي بقول عابر. يبلغ المستحيل فحيويته معقودة على ابتكار أشكال التنصّت على الحميمي والجماعي، دافعًا الجميع إلى الوقوف أمام مرايا الذات والروح. 

هذا دأبه، وإنْ يتّخذ أنماطًا مختلفة في التعبير والبوح، قبل امتلاكه بهاء السينما ولغتها في صناعة مفتوحة على الأنواع كلّها والأسئلة كلّها. يُجاهر بقدرته على التسلّل إلى الهوامش الضيّقة والثقوب التي تكاد لا تُرى، كي ينبش ما فيها من خبايا. ميزته أنه غير مُسالِم، وإلا فليذهب إلى جحيم التلفزيون. سمته أنه مشاغب، وإلا فليُعرض على الشاشات الصغيرة لتسلية عابرة في ضجيج الغرف المنغلقة على من فيها. جماله أنه حيوي يجهل الهدوء والسكينة، وإنْ يصنع صُوَره بهدوء وسكينة. سحره أنه، بتنقيبه عن بشاعات الحياة والعيش والعلاقات، قادرٌ على خلق جمال يُمتّع العين ويحثّ العقل على التأمّل والتفكير والنقاش.

لن يُحصَر الوثائقي في بشاعة الراهن وخفايا الماضي. العالم يتّسع لملايين الحكايات، وفيها الإيجابيّ المحتاج، هو أيضًا، إلى تحصين من النسيان والتلف. الوثائقي متمكّن من الإمساك بهذا كلّه، فهو انعكاس طبيعي جماليّ لأحوال طبيعية وغير طبيعية. منفتح على الفنون والتقنيات، فهو راغبٌ في اختبار المدى الذي تذهب إليه الفنون والتقنيات في صُنع الحكاية، او إعادة سردها. يزداد اهتمامه بالتحريك، لكنه غير متغاضٍ عن توازن جمالي بين قول ونمط تعبير. يزداد اهتمامه بالتجريب السينمائي، لكنه غير متوقّف عنده كأداة بوح، إذْ يجعل التجريب مُنطَلقًا إضافيًا لاختبارات شتّى في تفكيك المغلَّف، وفي تعرية المخبّأ، وفي رواية حالات وانفعالات.

الإيجابي منسحبٌ على تنامي العلاقة الجدّية بين الوثائقي والمُشاهِد. في صالات "توشنسكي" و"دي مونت" مثلاً، أثناء الدورة الـ31 (14 ـ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 2018) لـ"مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية"، حشدٌ من القادمين في صقيع المدينة إلى خراب الدنيا وأفراحها. حشدٌ ينقص عدده ويرتفع، وللوثائقي العربي حصّة من امتلاء صالات صغيرة وكبيرة. مشاهدون يأتون ليعرفوا ويتعرّفوا. يتحرّرون، ولو قليلاً، من طغيان التلفزيون والإعلام المرئي، فهم يريدون قصة أخرى، أو "القصّة الأخرى" للمُتَداول في محطات التلفزة والإذاعات. فالوثائقي أقدر على قول مغاير ينبثق من وقائع وحقائق يُراد لغالبيتها الساحقة الانمحاء والتغييب والنسيان.

ربما لهذا يُصاب عربٌ كثيرون، في السلطة والمجتمع والإعلام، بهلع كبير إزاء وثائقي يكشف ويفضح ويُعرّي بقوالب سينمائية مدهشة وآسرة.

المساهمون