اللامبالاة الحنونة للعالم: رحلة لا متناهية من الجمال والقسوة

اللامبالاة الحنونة للعالم: رحلة لا متناهية من الجمال والقسوة

17 نوفمبر 2018
دينَارَا بكتيباييفا ويرزانوف عادل خان في "كانّ"(الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
"وإذْ آنست أمّي نفسَها قريبة جدًا من الموت، لا ريب في أنّها أحسّت نفسها انعتقت وصارت مستعدّة لأن تعيش أيّ شيء من جديد. لم يكن لأحد، على الإطلاق، الحقّ في أن يبكي عليها. وأنا أيضًا، أحسست نفسي مستعدًا لأن أعيش أيّ شيء من جديد. وكأنّما هذا الغضب العظيم قد خلّصني من الألم، وأفرغني من الأمل، إزاء هذا الليل المفعم بالإشارات والنجوم. ولأول مرّة أنفتح أمام لامبالاة العالم الحنون. وإذْ آنسته شبيهًا بي إلى هذه الدرجة، وأنه قد صار أخيرًا أخويًا إلى هذا الحدّ، أحسست أنّي كنت سعيدًا، وأنّي ما زلت سعيدًا. وحتى يكتمل المشهد، حتى أحسّ نفسي أقلّ وحدة، بقي لي أن أتمنى شيئًا واحدًا: أن يحضر إعدامي جمعٌ غفير، وأن يستقبلوني بصيحات حقد". ("الغريب"، ألبير كامو، ترجمة محمد آيت حنا، "منشورات الجمل"، بيروت ـ بغداد، 2013).
كلمات الفرنسي ألبير كامو هذه في "الغريب" تلخّص الفيلم إلى حدّ ما. تمنحه عنوانًا على الأقل. "اللامبالاة الحنونة للعالم" (بدأت عروضه التجارية الفرنسية في 24 أكتوبر/تشرين الأول 2018) يشهد مواجهة غير متكافئة لحبيبين مع هذا العالم الشرس. عادل خان يرزانوف (كازاخستان، 1982) يقودنا في رحلة من الجمال والقسوة إلى النهاية، وإلى يأس مدمِّر وموتٍ يراه هو خلاصًا، إذْ "يجب ترك هذا العالم بطريقة أو بأخرى" لإنقاذ الحسّ الأخلاقي. لوحة ساحرة شاعرية لمجتمعٍ فاسدٍ يرسمها المخرج الكازاخستاني في فيلمه السادس.
في مشهدٍ جميل وأخّاذ بألوانه وإضاءته وتفاصيله، تطلّ سلطانة وهي تتهادى بفستانها الأحمر ومظلّتها البرتقالية سائرةً نحو المجهول. يلحقها كيوانديك، ملاكها الحارس وخادمها وصديقها منذ الطفولة. رحلتها من بلدتها الصغيرة إلى المدينة الكبيرة محاولة لإنقاذ عائلتها المكبّلة بديون خلّفها الأب الراحل. هناك، ينتظرها عمها الفاسد، الخاضع لرجل أعمال أكثر فسادًا منه. هي موعودة للزواج به. لكن هذين الشابين البريئين ينخرطان رغما عنهما في سلسلة أحداثٍ قاسية عنيفة لا تنفع معها مقاومتهما إياها بكافة السبل الممكنة. فهذه مقاومة من يسعى كي لا يتحطّم كلّ ما هو جميل في هذا العالم.
الزوجة الموعودة تتحوّل إلى مجرّد عشيقة، والملاك الحارس يغدو قاتلاً وشاهدًا على الظلم. المدينة لا ترحم، وعصاباتها تحوّلت إلى آلة قتل واستغلال وفساد. مفردات، كالرحمة والشفقة والإنسانية، ملغاة. ماذا تفعل ابنةٌ أمام أم أُلقيت عمًدا في زنزانة قذرة، لعجزها عن دفع الديون؟ كيف تستمر هي ورفيقها في عمل "شريفٍ" يمضيان العمر فيه من دون قدرتهما على ردّ شيء يُذكر من الدَيْن المطلوب؟


يُدفع بسلطانة وكيوانديك قسرًا إلى الهاوية. لكن، هل يسقطان فيها؟ كيف السبيل إلى الخلاص؟ تُجبر هي (وعمّها أول من يُجبرها) على "مُصاحبة" رجل مجرم ومقزّز، ويُجبر هو على خيانة الرجل الشريف الوحيد الذي ساعده، ويتعاون رجال الشرطة الفاسدون معًا على الإيقاع بهما. هكذا يبدو كأن المصائر قد تحدّدت. ومع الفاجعة التي يعيشان في ظلّها، وإزاء ليلٍ "مفعم بالإشارات والنجوم"، وأمام "اللامبالاة الحنونة" للعالم، يتحوّل غضبهما إلى فعلِ خلاصٍ وانعتاقٍ بالموت، ليعيش حبّهما نقيًا، وليُسْتَقبَل بصيحات حقد من الأشرار.
هذه مأساة تكشف فسادًا يسود العالم، تُروى بأسلوب سرد الحكايات بخيالها وشاعريتها، التي لا تخلو من طرافة وحسّ جماليّ ساحر. فالمخرج عادل خان يرزانوف ينتقل باستمرار بين ما هو جاد وخطر وبين هزء وسخرية يبعثان غصبًا على الابتسام. وفي كل مشهد ـ مهما كانت قسوته ـ هناك اعتناء بالصورة. الفيلم مبني على تشكيل الصورة وجماليات بصرية تعكس الجمال والقسوة في آن واحد. في كل مشهد لسلطانة، كما في مَشَاهد المصارعة والقتل، وفي الأمكنة والتفاصيل الصغيرة والنبتة والباب المخلوع، هناك دعوة إلى التأمّل في الصورة، وفي مقدّمتها وخلفيّتها. تأخذ الألوان دورها في التعبير عن النفسيات. سلطانة المرتدية ثوبًا أحمر واحدا في النصف الأول من الفيلم، تظهر بثوب أسود واحد في نصفه الثاني. ثوبان متشابهان تمامًا في الحياكة والتصميم، لكن اللون وحده يتبدّل، وكأنّه يعبّر عن براءة أولية، وعن بهجة استُبْدِلت بتعاسة العالم كلّها.
يكسر عادل خان يرزانوف القواعد ويدمّر السيناريو الأصلي، كما يقول في حوار صحافي أجراه بعد عرض فيلمه هذا في برنامج "نظرة ما" في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي. وفي تركيبه المشهد، كما في ألوانه ورسم شخصيّتيه الرئيسيّتين، في قوّتهما وطفولتهما، يستوحي المخرجُ الرسّامَ الفرنسي لودوانييه روسو في خطوطه وصدقه الطفولي، كما يستوحي النص من الفلسفة الشعرية لألبير كامو. هذه المراجع الأدبية والتشكيلية في الثقافة الفرنسية تأخذ دورها في السرد، حيث يشكّل عالم الثنائي روسو وكامو منفذًا لسلطانة (دينَارَا بكتيباييفا) من الواقع. يُذكر أن بكتيباييفا تؤدّي دورًا جديدًا عليها، هي المعتادة على السينما التجارية في كازاخستان، كما أن أداء البطل كيوانديك (كيوانديك دِسينباف) لافتٌ للانتباه لحُسنه.
قسوة الشخصيات تعبّر عن النظام الاجتماعي والعائلي الذي يدينه عادل خان يرزانوف من دون مواربة. بل إنه يبالغ في قهر شخصياته لإثارة شعور أقوى بالاضطراب واليأس. ففي أفلامه، يتناول المجتمع المعاصر لكازاخستان، حيث "النظام الإقطاعي عاد، كأنّ شيئًا لم يحدث، وكأنّ الشيوعية لم تكن هنا يومًا، فكلّ شيء عاد كما كان قبلها". أفلامه المستقلة لا تعرض في بلده، فالدولة تفضّل "الأفلام الملحمية والهزلية"، و"كلّ فيلم يتناول الواقع الحقيقي والمجتمع المعاصر، ولا تكون شخصياته من ورق، هو سينما لا تريد الدولة رؤيتها"، كما يقول يرزانوف في الحوار نفسه.
لا يتعلق الأمر فقط بالسياسة كما يبدو، بل بقول الأمور "بدقّة وتصميم"، وهذا يُنفّر السلطات منه.

دلالات

المساهمون