الغناء في العراق: صعودٌ على سلالم الجنوب

الغناء في العراق: صعودٌ على سلالم الجنوب

07 أكتوبر 2018
ضياء العزاوي، "سماء حمراء وطيور"، زيت على قماش (1981)
+ الخط -

كان العراق مهداً لحضارات عديدة قامت ونشطت في جميع مفاصل الحياة، ولا سيما الحياة الثقافية منها، انطلاقاً من طبيعة أرضه الوافرة والخصبة، فهو من البلدان القليلة المهمة التي يمر بها نهران، وفروعهما المترامية الأطراف على وسع أراضيه مختلفة التضاريس، من سهول وجبال ووديان وبوادٍ؛ كل منها أنجبت بيئة صالحة لقيام ثقافات متعددة.

أثّر تعدّد الأنساق البيئية على نمط الحياة الثقافية العراقية، وشكّل الغناء ركناً أساسياً فيها، ليخلق تنوعاً في وسائل التعبير؛ فمثل ما تنوعت البيئة، تنوعت أيضاً أشكال الغناء. هكذا، نجد غناء البادية، وغناء البصرة، والخليج، والجنوب، وغناء المدينة، والغناء الموصلي، وغناء الكورد في كردستان، وغناء القوميات المتعددة؛ التركمان، والكرد آشور، والأزيدية، وغيرها الكثير. صارت هذه المناطق ملاذاً للبحث العلمي للكثير من العلوم، ولا سيما علم الموسيقى الإثنية. هنا، لمحة عن الغناء في كل منطقة.



البادية والمدينة
ثمة ثلاثة أشكال لغناء البادية؛ فهناك غناء القبائل المستقرة، والتي تكيّفت تماماً مع بيئتها الجديدة، بعد أن اعتمدت في تحصيل قوتها على المدينة. وغناء القبائل شبه المستقرة، التي هي بطبعها تردّدت بين الاستقرار التام والعيش في المدينة، فهي إذن شبه مستقرة. وغناء البدو الرحّل في الصحراء، وهم قوم يتّخذون من الصحراء ملجأً، يجوبونها طلباً للماء والكلأ، وهذه الأخيرة ظلت محافظة على أنماط أغاني بيئتها حتى اليوم.

أما غناء المدينة؛ فهناك المقام العراقي، والمونولوغ، والمربع، وكذلك ما يُعرف اليوم بالأغاني المتقنة. أما في الموصل، فهناك نوع من الغناء يشبه القدود الحلبية، وكذلك الطريقة الموصلية لقراءة المقام، وهناك أيضاً غناء المدينة، وما جاورها من أنواع المواويل. أيضاً هناك غناء البصرة، كالخشابة، وأغاني اليامال. أما في الجنوب، فالحديث يطول كما سنتبين في ما يلي.



الوسط والجنوب
يتألّف الوسط من خمس محافظات؛ المدينتان المقدستان كربلاء والنجف، ومحافظة بابل، والديوانية، والكوت. في البحث الموسيغنائي (الموسيقي والغنائي)، لا يمكن أن نتحدث عن محافظات الجنوب أو الوسط على اعتبارها نسقاً موسيغنائياً واحداً، بل الأكثر دقة من الناحية العلمية أن نأخذ كل محافظة باعتبارها نسقاً غنائياً يتسم بنواحٍ عدة تميزه عن غيره من أنساق المحافظات، وإن اشتركت جميعها في الخطوط الموسيغنائية العامة. في مدن الوسط الخمس، هناك ما يُعرف بالطريقة الملائية، وهي نمط أدائي متوارث من اختلاط الثقافات الدينية التي عاشت هناك، ولا سيما كربلاء والنجف والحلة. يغلب على تلك المناطق الطابع الزراعي، وأغلب ساكنيها يمتهنون الفلاحة.

أما ما يميز الغناء في الجنوب (العمارة والناصرية والبصرة)، فهو ظهور شبكة واسعة من الأطوار الغنائية، والطور هو نسق غنائي يعتمد على ما يُعرف بالأبوذية، وكذلك الموال، لكنه مقيّد بقيود أدائية معينة، هي التي ترسم الخط الجمالي العام.


الأبوذية
هي المادة الشعرية التي يتغنى بها مؤدّو الأطوار الريفية في الوسط والجنوب، على حد سواء. تتألّف الأبوذية من أربعة أشطر، تنتهي الأشطر الثلاثة الأولى منها بكلمات متشابهة في الحروف، ولكنها تختلف في المعنى، مثل: "مت تاتي يشهر الفرح وتهل/ زفيري حرّك باجي احشاي واتهل/ لو مالي نواظر تكت وتهل/ جا ناري خذتني وسرت بيه".


الموال
هو ضرب يتكوّن من بوذيتين، متشابهتين في الحروف، مختلفتين في المعنى، كما يلي: "ياخوي أنا خوك لو جار الدهر صاحبك/ اغتاض لو أشوف غيري من الخلك صاحبك/ سكران بمودتك ما يوم أنا صاحبك/ عند دكايك كشر تمرد اكليبي مرد/ جم عاذل الردني وانا بعذلة مرد/ استاهدك يا ترف زاجي وحليبك مر/ لجن ألف ياحيف ما تحمي كفه صاحبك".

أبرز ما يميز مدينة عن أخرى بالنسبة للغناء، هو أسلوب قراءة الطور؛ لأن الأطوار الغنائية، كما سيتبين، هي الحاضنة لكل لواعج النفس العراقية في أفراحها -وهي قلة من جرّاء الكوارث والحروب- وأتراحها. وما أكثر هذه الأخيرة، خاصة في ريف الجنوب والوسط. الطور نمط غنائي يُعرف بـ "الغناء الفالت" من الناحية الفنية في أسلوب الغناء، يكون فيه لون المقام حاضراً؛ أي أن كل الأطوار، على تشعّب أهوائها، لا بد وأن تكون متخذة سلّماً موسيقياً معيناً من سلالمنا الشرقية، مثل البيات أو الصبا. ولا يسير نمط غناء الموال على أسلوب الفالت في كل سبل قراءته، بل في بعض الأحيان هناك إيقاع مبتكر يناسب مسيرة الغناء، مثل إيقاع الصينية والسبحة، وهو عبارة عن صينية شاي نضع عليها سبحة وننقر بأصابعنا عليها فتخرج إيقاعات جميلة تصاحب غناء الموال. جاءت بعض أسماء هذه الأطوار على أسماء المدن، مثل الحياوي؛ نسبة إلى مدينة الحي، والشطراوي؛ نسبةً إلى مدينة الشطرة، والمجراوي؛ نسبة إلى مدينة المجر، وهكذا. وهنالك ما جاء على أسماء القبيلة التي اعتيد غناؤه فيها، مثل العياش (قبيلة العياش)، والقزويني (أسرة آل قزوين)، والسويطي (قبيلة السويطات في السماوة)، والطريحي (فخذ من بني أسد)، والمحمداوي (البو محمد في العمارة).

هناك أطوار نُسبت إلى أسماء مغنيها، مثل الطويرجاوي (عبد الأمير الطويرجاوي)، والغافلي (المطرب راضي الغافل)، والمحبوب (المطرب محبوب العبد)، والمشموم (المطرب محمد المشموم)، والغنيسي (المطرب الملا غنيس البصراوي) والجادري (المطرب الملا جادر) والزايري (المطرب والشاعر الملا زاير). أخيراً، ثمة أطوار نُسبت إلى اسم الديانة، كالصبي.


سلالم الغناء
تتوزّع أطوار الغناء في الوسط والجنوب على عدّة سلالم، لكل منها خصائصه ومميزاته. نبدأ، هنا، بسلّم البيات، الذي تقاسمته أطوار عدة؛ الحياوي، ولهذا الطور طرق عدة في غنائه، لكنها لا تخرج عن سلمها البيات، وطور الملائي، وطور القزويني، وطور المستطيل، والصنداكي، والمثكل، والشجي، والجادري، والزايري، وطور الشطيت.

بينما يحتضن سلم الصبا أطواراً عدة، أبرزها المحداوي، وهو من أهم الأطوار التي يتغنى بها أهالي العمارة، ويُغنى بطرق عديدة، وكذلك طور المحبوب، وطور الشطراوي، وطور المجراوي، وطور الملاحي، وطور المنصوري.

وهناك سلم الحجار، وفيه جاءت أطوار عدة، منها طور السويطي، وطور العياش، وطور الغنيسي. إلى جانب سلم اللامي الذي يضم طرقاً كثيرة أبدعها مغنو العمارة. نذكر أيضاً سلم السيكاه، وسلم الصبا زمزم وسلم الراست وسلم المخالف.


نجمان
هناك نجمان متألقان في الغناء العراقي برمّته، كانت بدايتهما في الناصرية (الشطرة)، هما حضيري أبو عزيز، وداخل حسن. يشكّل الراحلان علامتين فارقتين في مسيرة العطاء الموسيغنائي العراقي والعربي؛ لما لهما من تراكم غنائي كبير، هو زاد الأغنية العراقية؛ فهو أول بوادر ما عرف في ما بعد بالأغنية المتقنة (مقدمة موسيقية، موال (أو وبوذية)، ثم غناء).

وُلد حضيري حسن رهيف غالي شلون عام 1909 في مدينة الشطرة يتيم الأب؛ فقد أعدمت والده الجندرمة لامتناعه عن دفع الضرائب وقيادة تظاهرة بهذا الخصوص. كفلته عمّته وجعلته يساعد في رعاية أبقارها. عاش الصبي محباً للغناء مستمعاً له متنقلاً بين النهر والحقول، مردداً ما كان يسمع من أغان تؤدّى في الأعراس والمناسبات الأخرى.

حين بلغ العشرين، أخذه خاله إلى المدينة ليعلمه مهنة الخياطة، وسرعان ما تعرّف إليه الناس، بوصفه مطرباً وحافظاً للشعر والأبوذيات والمواويل. لاحقاً، تطوع في سلك الشرطة الذي كان وبالاً عليه لكونه يكثر الغناء؛ فنُقل من وحدة إلى أخرى. في بغداد، تسابقت عليه الشركات لتسجّل صوته، وكذلك الإذاعة ومن ثم التلفزيون.


 

دلالات

المساهمون