"مسكون 3" في بيروت: غرائبيات الواقع

"مسكون 3" في بيروت: غرائبيات الواقع

29 أكتوبر 2018
"النمور ليست خائفة" للمكسيكية إيسّا لوبيز (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
برنامج النسخة الثالثة من مهرجان "مسكون"، المُقامة في بيروت بين 31 أكتوبر/تشرين الأول و4 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، حافلٌ بعناوين جاذبة لمُشاهدةٍ تمزج متعة المتابعة بمفردات التشويق والرعب والفانتازيا. مفردات كهذه يتّخذها المهرجان نواة أساسية لاشتغاله السينمائي. عوالم حاضرة في النتاج الدولي، والسينما العربية تخطو خطوات جدّية في صناعة ترتكز على بعض تلك المفردات، وإنْ بتواضع إبداعي لن يحجب جماليات بصرية مختلفة. 
المهرجان قائمٌ في بيروت منذ 3 أعوام، وأفلامه المختارة انعكاسٌ لأحوال فردية منبثقة من هواجس بيئات اجتماعية مختلفة. النسخة الثالثة تأكيد على هذا.

البرنامج غنيّ بعناوين سينمائية، بعضها معروضٌ سابقًا في مهرجانات دولية، أبرزها "كانّ" و"كارلوفي فاري" و"ساندانس" و"روتردام". هذا دليلٌ على تمكّن المهرجان ـ الذي تُنظّمه "أبّوط للإنتاج" بالتعاون مع "جمعية متروبوليس" و"الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)"، التابعة لـ"جامعة البلمند"، والموقع الإلكتروني "سينموز"، وكلّها موجودة في بيروت ـ من تثبيت حضوره السينمائي في العاصمة اللبنانية، كـ"أول مهرجان في المنطقة العربية متخصّص في أفلام الرعب والفانتازيا والإثارة (ثريلر) والحركة (أكشن) والخيال العلمي"، كما في تعريفه الرسمي. تثبيتٌ سينمائي يحاول التوفيق بين نتاجٍ حيوي ومشاهدين يرغبون في كلّ جديد ممكن، والمهرجان ساعٍ إلى توظيف إمكانياته لتأمين بعض أفضل أفلام هذا "التخصّص السينمائي".

افتتاح النسخة الثالثة هذه معقودٌ على "المُذنب" (الدنمارك، 2018) للدنماركي المولود في السويد غوستاف مولر ("العربي الجديد"، 1/ 10/ 2018). 85 دقيقة داخل غرفة مغلقة، تنغلق على أصغر هولم (يُكُب سيدِرْغرين) المنغلق، بدوره، على ذاته جرّاء ضغوط غير مُحتملة. كأنه مُقيم فيها منذ زمن بعيد، وسيبقى فيها زمنًا آخر. منقولٌ إليها بعد خضوعه لتحقيقٍ ناتج من قتله شابًا "عن طريق الخطأ"، فهو شرطيّ يُكلَّف بالعمل في غرفة الطوارئ ريثما تنتهي التحقيقات والمحاكمات، وهي الغرفة التي يتصل بها أناسٌ كثيرون لأسباب مختلفة. لحظات أولى مكثّفة ومختصرة، تُقدِّم الحبكة والشخصية وعوالمها. أصغر هولم يعاني أيضًا من انفصال حبيبته عنه. لكن معاناته تتراكم شيئًا فشيئًا، محدِثةً توتّرًا ذاتيًا ينعكس في ملامحه وسلوكه وحركاته، رغم بقائه جالسًا على كرسيه الوقت كلّه تقريبًا. تزداد معاناته، التي يُضاف إليها قلق وارتباك، مع اتصال امرأة تُدعى إيبِنْ (جيسيكا ديناج) تُخبره أنها مخطوفة من زوجها مايكل (يوهان أولسن)، وأن ولديها الصغيرين باقيان في المنزل وحدهما، وأنها تريد الذهاب إليهما، وأنها محتاجة إلى مساعدته.

براعة أداء يُكُب سيدِرْغرين تصنع الفيلم برمّته. تلاعبٌ بأصغر هولم يحدث من دون انتباهه إلاّ متأخّرًا، يتمكّن سيدِرْغرين من تقديمه ببراعة لافتة للانتباه ومحرّضة على المتابعة بشغف ومتعة. تلاعبٌ يوقع أصغر هولم في متاهاتٍ، لعلّها تُساهم في تصفية ذاته من متاعبها، ولعلّها تصنع له نقيض ما يتمنّاه، فالمسار الدرامي كفيلٌ بسرد الحكاية، والنهاية معلّقة رغم تلميحاتٍ إيجابية بسيطة.

هناك أيضًا "ذروة" (فرنسا، 2018، يُعرض مساء 2/ 11/ 2018) للأرجنتيني الفرنسي غاسبار نُويه ("العربي الجديد"، 24/ 9/ 2018). الانغلاق في غرفة (المذنب) يُصبح انغلاقًا في مكان أوسع (ذروة). الشخصية الواحدة (أصغر هولم) تتحوّل إلى شخصيات عديدة لشبابٍ يخضعون لـ"كاستنغ" ويُجيبون على أسئلة متعلّقة بالرقص والحياة ومفاهيم مختلفة لهم حول مسائل حياتية. هذا كلّه قبل مشاركتهم في حفلة يُفترض بها أن تكون عادية، لكنّ "أمرًا ما" يحدث، فتتبدّل أحوالهم جميعهم، بوقوعهم في "ذروة" هذيانات تفضح المبطّن فيهم، وتعرّي أرواحهم فتكشف صراعاتٍ داخلية في ذواتهم، ونزاعات خارجية مع الآخرين. هذيانات تقودهم إلى أعمق ما فيهم، وتُخرج منها ما يُخبّئونه على أنفسهم ربما، وعلى الآخرين أيضًا.

بارع غاسبار نُويه في تفكيك الذات الفردية. قاس وحاد في تعرية الفرد ودفعه إلى مواجهة لاوعيه، بشراسة أحيانًا. متوغّلٌ في النفس البشرية كسينمائيّ يجعل الكاميرا عينًا تخترق الممنوع والمحصّن، ويُحوِّل العدسة إلى أداة كشفٍ وبوح. "ذروة" إضافة نوعية وجمالية إلى لائحة أفلامه الصادمة والفاضحة. فرغم البداية العادية جدّا (لهذا يزداد غير المتوقّع بهاءً في سرد فضاءاته وعوالمه)، يُصبح الاحتفال متتالياتٍ بصرية تجمع الكوريغرافيا بالتفكيك النفسي، وتتيح للكاميرا التقاط "كلّ شيء" كأنها جزءٌ من الاحتفال، وتحوّل الألوان الغامقة إلى منافذ تقود إلى بعض الروح أو إلى بعض الخراب أو إلى بعض الوجع، لكنها حتمًا تقود إلى فيلمٍ بهيّ وقاسٍ.



بالإضافة إليهما، يُعرض "حدود" (إنتاج سويدي دنماركي مشترك، 2018) للدنماركي الإيرانيّ المولد علي عباسي، مساء 3/ 11/ 2018. الفانتازيا، هنا، في إحدى أجمل صُوَرها السينمائية. الغرائبية واللامعقول وغير المتوقّع عوالم تصنع حكاية عن حبّ يبدأ بجاذبية انفعالية بين شخصين يتمكّنان من التعرّف إلى "حقائق" خاصة بهما، وبفئة من الذين يُشبهونهم تمامًا. حبّ تشعر به تينا (إيفا مِلاندر) إزاء فُوْر (آييرو ميلونوف)، لكن فُوْر يريدها لغرضٍ متعلّق بهذا النوع من الكائنات الحيّة. فبين واقع العلاقات العائلية والزوجية المعطّلة، والغرائبيّة التي تنكشف في نوعٍ مختلف من الكائنات الحيّة، يروي علي عباسي تلك الحكاية المنتمية إلى فانتازيا الحياة: شخصان لهما شكل غريب، يرتبطان بعلاقة حبّ لن تُشبه تلك القائمة بين الناس.

عوالم "حدود" منتمية إلى ما هو خارج الإدراك والواقع. هذا أساسيّ في تكوين نصّ سينمائي يسرد شيئًا من وقائع العيش في صراع دائم مع الذات والبيئة والآخر، بسبب اختلافٍ في الشكل سيكون أساسيًا في الارتباط بتفاصيل منفضّة عن هذا العالم المعروف.

أما "النمور ليست خائفة" (المكسيك، 2017) للمكسيكية إيسّا لوبيز، فيُعرض مساء 3/ 11/ 2018: واقعية الحكاية متداولة في العالم. نيو مكسيكو غارقة في صراع عصابات المخدّرات، أي في حالةِ عنفٍ غير منتهية. القتل والخطف والفساد أمورٌ تُثير خوفًا لدى أناس ينعزلون كي يعيشوا حياة عادية، لكن حجم الخراب فتّاك، ولن تتمكّن الأبواب المغلقة للمنازل من حماية سكّانها. أطفال كثيرون مُشرّدون في الشوارع، فالأهل إما مُغيّبون أو مقتولون. هذه وقائع. لكن "النمور ليست خائفة" ينبثق من أسطورة أمير ونمر ورغبة في تبادل المواقع بينهما، كي يروي حكاية إستريلّا (باولا لارا) التي لن تعثر على والدتها المختفية فجأة، إلاّ بعد رحلة في جحيم الأرض، في مناخ فانتازيّ غرائبيّ يُظلّل الرحلة وإستريلّا معًا.

نماذج قليلة من برنامج حافل بتنويعات سينمائية تصنع من الصُور المختلفة وقائع عيشٍ، لكن بأشكال بصرية غير واقعية غالبًا.

دلالات

المساهمون