محمد فوزي في مئويته: موسيقى تتطلّع إلى المستقبل

محمد فوزي في مئويته: موسيقى تتطلّع إلى المستقبل

28 أكتوبر 2018
(اختصرت المحنة حياته إلى 48 عاماً)
+ الخط -
100 عام تمرّ على ميلاد محمد فوزي (1918 - 1966). ربما، انكفأت النظرة إلى المغنّي والموسيقي المصري في الأشكال الخفيفة والشعبية التي قدمها، من دون النظر إلى تجربته اللحنية الثرية بتنويعاتها، وجرأته في التطرّق إلى أشكال غنائية جديدة وغير مألوفة.

فوزي الذي نعرفه، انحصر في سمات محدودة شكّلتها ابتسامته البراقة لوجه ملائكي، وأغانٍ تملؤها خفة مرهفة، وصوت رخيم. حتى نهايته المأساوية، ظلت في الهامش. أما فرادة فوزي، فربما لم تكن تلائم عصره، والكثير من لمحاته المدهشة، قد أغفلتها أزمنة متعنتة.

عندما غنت ليلى مراد "أنا قلبي دليلي" بفالسها المبهر، من ألحان محمد القصبجي، قال فوزي عنها إنها لحن آتٍ من عام 2000. وهكذا ظل يتطلّع في كثير من ألحانه إلى المستقبل؛ فصورته كفنان "يسبق عصره" أخذت شكلاً سطحياً، عبر حصرها في البساطة اللحنية، إذ لم تكن تقتصر على ذلك، وإن كانت سمتها الغالبة. بساطة فوزي هي بساطة حد التعقيد، كما وصفها محمد عبد الوهاب.

تعبر ألحان محمد فوزي عن حس لُعبي، مصدره تلقائية جامحة. ويبدو أن صاحب "ذهب الليل" بتلحينه المبهج للأطفال، أفصح عن صورة الطفل العالقة في محياه الباسم. أما الصورة الشائعة عن ألحانه باعتبارها تتشابه، هي تجسيد لنظرة نمطية أغفلت واحدة من أثرى التجارب اللحنية في العالم العربي.

في أغنية "الزهور"، يتغنى فوزي بالجمال الأنثوي: "حاكم الزهور زي الستات لكل لون معنى ومغنى". هنا، تتجلّى براعته كجواهرجي صاغ واحدة من روائع الألحان العربية. يتدرّج اللحن بتحولاته المقامية من إحساس تأملي تضفيه الوتريات في الجملة الموسيقية السابقة لغناء المذهب.

تصبح نفس الجملة الموسيقية ذات مزاج مختلف كلياً، مع حضور الأكورديون وإيقاع الفالس، ليشهد تحولاً مقامياً في غناء أول غصن، بصيغة لحنية تحاكي غناء الصالونات، ربما للتعبير عن جمال الطبقة العليا. لكل لون معنى ومغنى، يتحول مع زهر القرنفل ليجسد جمالاً تملؤه الشقاوة، وهو ما يبرزه إيقاع الفلامنكو بلازمة موسيقية مختلفة مقامياً.

ويصبح مقام الراست في الغصن الأخير، تجسيداً لمزاج شعبي، وهو يتحدث عن بنات البلد والورد البلدي، ثم العودة إلى المذهب بحسه التأملي والمتعجب. فعلاً، إنها البساطة حد التعقيد، ومن هذا اللحن يتشكل جمال خلاسي أبرزته عناصر هجينة، وبررته أهواء حب الجمال المتعدد في كل لون ومعنى للزهور والنساء.

تجنبت ألحان فوزي بصورة عامة المغالاة في العاطفة، لتجسد انضباطاً حسياً، أو لُعبياً. وهي بصورة عامة لم تكن تعبر عن رغبة بالإبهار، فكانت تلقائيته مصدر الدهشة. لكن السمات الجمالية لألحان فوزي برهافتها لم تعد تلائم مزاجاً شعبياً انخفضت نزعاته الجمالية.

ومع أن صاحب "أي والله وحشونا الحبايب" قدم ألحاناً شعبية أنيقة في طابعها، مثل أغنية محمد عبد المطلب "ساكن في حي السيدة"، إلا أن كثيراً من ألحانه الشهيرة لا يعرف الجمهور أنه ملحنها، وهي غالباً ليست أجمل ألحانه، مثل "مصطفى يا مصطفى" و"فطومة".

لم يكن يتمتع فوزي بصوت عريض المساحة، ولهذا سيميل إلى اختيار الجمل اللحنية السهلة، الملائمة لقدراته الصوتية. لكن اختيار الثيمات اللحنية البسيطة، هو امتداد لتجربة سيد درويش في المسرح الغنائي. وكما أراد درويش محاكاة أصوات الصنايعية والحشاشين، أو أساليبهم الصوتية، حاول ذلك فوزي في أغنية "شحات الغرام" مع ليلى مراد، حين أراد محاكاة أساليب الشحاتين في الاستجداء، عبر مسحة الموال، وبنزوع تهكمي. هذا التنويع الدرامي يظهر جلياً في عمله الاستعراضي "أيام الحب"، فيمنح صوت إسماعيل ياسين مسحة هزلية غير لحنية.

يذهب كثيرون إلى اقتفاء الأثر السطحي للإبداع، مثل اعتبار أغنيته لعيد الميلاد سابقة في الغناء العربي كموضوع. لكن لحن "يا نور جديد" تمثّل تدفقاً جياشاً بالعاطفة، ومخيلة لحنية مذهلة. الأغنية من مقام النهاوند، وشكّل الكورال النسائي صوت الموسيقى، مع وجود خلفية وترية للهارب. تتجلى عبر هذا العمل شعرية مرهفة، تبلغ الذروة عند "والشمس مالت من الخجل في برجها".

شكّل توظيف الكورال بديلاً عن الآلات الموسيقية، واحدة من أكثر مغامرات فوزي اللحنية جرأة؛ هو يستغني عن الآلات الموسيقية، ويستخدم بدلاً عنها أصوات الكورال؛ فيقوم الكورال الرجالي مكان الآلات ذات الأصوات العريضة، مثل التشيلو والكونترباص والترومبيت، بينما تعبّر الأصوات النسائية عن الآلات الموسيقية الحادة كالفيولين والأوبوا. وفيما سيكون للرجال دور إيقاعي، تقدم الأصوات النسائية خلفية بوليفونية.

ورغم تأثر فوزي الواضح بالموسيقى الغربية، ورغبته في جعلها نموذجاً لتجديد الغناء المصري والعربي، إلا أن تعلمه مبكراً قراءة القرآن، مثل معظم الملحنين الكبار في مصر والعالم العربي، مكنه من أدوات الغناء الشرقي. ربما لم يبتعد محمد الموجي وبليغ حمدي عن الحقيقة، حين قالا إن جيلهم تأثر بألحان فوزي أكثر من تأثرهم بعبد الوهاب؛ فتوجهات فوزي اللحنية وجيله مهدت الطريق للأجيال اللاحقة، فكان وراء تقديم بليغ حمدي للسيدة أم كلثوم. لم ينظر فوزي إلى الجيل الشاب كمنافس له.

إلا أن إنسانيته وقدراته الفنية، لم تكن لتمنع عنه النهاية المأساوية كضحية لنزوات النظام. قدم فوزي 36 فيلماً سينمائياً معظمها من إنتاجه، وقرابة 400 لحن. لم تقتصر موهبته على الفن، بل تجلت إدارياً، واستطاع بهذا تأسيس شركة إنتاج وأول مصنع للإسطوانات في مصر عام 1958. لكن سرعان ما تغير موقف النظام، وقام بتأميم شركته "مصروفون" عام 1961. وبشكل ساخر، حافظوا على منصبه كمدير للشركة براتب قدره مئة جنيه. لهذا السبب، سيرفض بليغ حمدي صياغة لحن يتغنى بحاكم.

تعرض فوزي إلى معاملة قاسية. وحتى الآن لم تظهر خفايا ذلك القرار: هل كان نتيجة سخرية ما أطلقها، جعلته عرضة لعمل انتقامي؟ هل كانت هناك وشاية؟ ما هي الأسباب؟ لم يشمل قرار التأميم شركة "صوت الفن" التي أسسها عبد الوهاب وعبد الحليم عام 1959. وكما أشيع، فإن علاقة عبد الحليم بالنظام أثرت على استبعاد شركته من التأميم.

ظلت قضية فوزي، مسألة هامشية في الحياة الفنية داخل مصر، رغم فداحة ما تعرض له. فهل هناك خفايا أخرى؟ لاحقاً، تعرّض فوزي إلى مرض مميت ونادر، "تليف البطين الخلفي". كما أن قضيته عبرت عن المشهد المتخاذل للوسط الفني، حتى أن السيدة أم كلثوم لم تدافع عن صديقها فوزي، رغم أن شركته كانت المنتجة لأسطواناتها.

ربما انحصر الأمر في مشاعر متفاوتة بين التضامن المكبوت والتشفي. واكتفى فوزي بنشر صورة أخيرة له التُقطت بطلب منه، ظهر فيها قبل رحيله بقليل؛ أصلع الرأس، ذاوياً مثل شبح، وقد تلاشت ابتسامته الملائكية. هل أراد من الصورة أن تكون إدانته الأخيرة لما فعله به النظام؟

انتهى صانع الابتسامة الجميلة كضحية لمزاج متسلط. ربما كان سيعيش ثلاثة عقود أخرى، لكن المحنة اختصرت حياته إلى 48 عاماً فقط.

المساهمون