منير مراد... ضحك ولعب وجد وحزن

منير مراد... ضحك ولعب وجد وحزن

21 أكتوبر 2018
منير مراد ووداد حمدي في "موعد مع إبليس"
+ الخط -
لم تشكّل مسيرة الممثل والملحن المصري منير مراد (1922 - 1981) مجرد أغانٍ جميلة، إنما حياة تحتفل بالفرح في عصر كان يسود فيه الحزن على الأغاني. إن حائك المرح في الغناء العربي، الذي مرت الذكرى السابعة والثلاثون لرحيله في الـ 17 من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، مات منزوياً بعد عزلة طويلة وكئيبة، بأزمة قلبية. مع هذا، لم تكفّ ألحانه عن وضع البهجة التي مثلتها كركن مشرق في الكثير من الأعمال السينمائية، وتنوعت بين الاستعراض والدويتو والمونولوج والطقاطيق. لكن انحصار موهبته الموسيقية في المجال السينمائي، حد كثيراً من تنويعاته اللحنية.

بطريقة ما، دخل مراد عالم الفن عن طريق السينما، متأثراً بنجم الأربعينيات الممثل أنور وجدي، حين كان زوج شقيقته، الفنانة ليلى مراد. عمل لفترة مخرجاً مساعداً، إلا أن موهبته الحقيقية انفجرت في التلحين، فكانت مزيجاً من الحركة التي تتطلبها السينما، والتعبير اللحني المتسم بالخفة والبساطة في جمل قصيرة وراقصة مشحونة بالإيقاعات والحيوية والرتم السريع.

سمات ميزت منير مراد، ليأتي كلحظة تمرد رائعة على أشكال الغناء المنبثقة بدرجة رئيسية من التطريب. تأثّر منير مراد بالموسيقى الغربية، وتحديداً موسيقى الجاز، ما جعل سماته اللحنية بعيدة تماماً عن الجوانب الطربية، فبالتالي لم يكن مطلوباً خارج السينما. لكن تبقى شخصيته متفردة ومختلفة عن ملحني عصره وحتى سابقيه؛ إذ جسد لوناً خاصاً به يمكن للأذن أن تميزه ببساطة.

نتساءل: كيف تكونت تلك الشخصية المختلفة؟ أو ما يمكن اعتباره حالة شغب لطيفة في عالم الغناء المصري؛ فكان منير مراد أشبه بشاب يرتدي الكاجوال في محيط يرتدي البدلة الرسمية. يعتبر البعض بأن منير مراد لم يأخذ حقه من الاهتمام بسبب أنه ينتمي لعائلة يهودية، رغم إسلامه. لكن، في الحقيقة، يعود الأمر إلى الزاوية التي تم حصره فيها كملحن إسكتشات استعراضية مبهجة، وأغانٍ سينمائية، مبتعداً عن المجال الطربي؛ أي باعتباره صائغ ألحان خفيفة. ورغم أن تكريسه لتلك الألحان قيّد تنويعاته، إلا أنه كان سبباً أيضاً في تقديمه لتلك الشخصية اللحنية شديدة الاختلاف عن معاصريه.

يقف صف طويل من الأغاني التي ميزت شخصية منير مراد المتفردة عبر الغناء المصري، بدءاً من "سوق على مهلك سوق" و"القلب يحب مرة" و"عيش الحياة" لشادية، إضافة إلى ألحانه لعبد الحليم مثل "أول مرة تحب يا قلبي"، والأغنية التي أصبحت نشيد الناجحين، "وحياة قلبي وأفراحه"، بلازمتها الموسيقية المبهجة والحيوية واللحن الرشيق المتسم بالخفة، إضافة إلى ألحانه الاستعراضية مثل "دقوا الشماسي"، والحوارات الدرامية مثل "صح النوم". أعمال فيها أشكال منوعة من العناصر اللحنية تشتهر بجملها اللحنية البسيطة المركبة على صيغ راقصة.

لعل ميل منير مراد للموسيقى الغربية، ألقى أثره على شخصيته اللحنية، والتي لم تكن لتلائم الذائقة السائدة المرتبطة بعناصر هجينة فيها من الشرق ومن الغرب، وفيها البلدي والشعبي والطربي. لهذا، انفتحت له السينما على مصراعيها، أو أنها بررت هذا الاتجاه المتسم بالحيوية والرشاقة والخفة كنمط غنائي يسود الأعمال الاستعراضية، وتلك ذات الطابع الدرامي. بينما لم يكن له حضور واسع خارج السينما، وتحديداً في الأغاني التي يتم تقديمها على المسرح. وذلك له ارتباط بطغيان ملامح الموسيقى الغربية عليه، بينما لم يكن متعمقاً أو ربما مكترثاً بالجوانب التطريبية. تمكن ملاحظة ذلك في طغيان المقامات الخالية من ربع التون في معظم ألحانه.

ومن شدة شغف منير مراد بموسيقى الجاز، أراد تقديمها في مصر، لكنه فشل في إيجاد منتجين يروجونها لاعتقادهم أنها ليست مقبولة محلياً. لذلك، بحث مراد عن شخصية لحنية تدمج عناصر غربية مع شرقية لتحظى بالقبول، وهو ما أطلق نجاحه. ينعكس تأثره بموسيقى الجاز من خلال توظيف عناصرها في كثير من ألحانه، مثل "عايز آكل يا بطة".

هكذا، كرّس مراد معظم ألحانه للاستعراضات الغنائية، والأغاني السينمائية الخفيفة، المتسمة بالحيوية والحركة، والتي لم تكن لتعثر على ما يبرّر حضورها في المسار الغنائي العربي لولا ازدهار السينما في مصر، وأصبحت عنصراً من عناصر نجاح الأفلام الغنائية.

من ناحية أخرى، لم ينحصر في ذلك فقط؛ إذ قدّم ألحاناً رومانسية أيضاً، مثل "بأمر الحب"، و"بحلم بيك" لعبد الحليم، و"من يوميها" لوردة. هذا الاتجاه الموسيقي، جعله نجماً موسيقياً في ألحان السينما خلال عقدي الخمسينيات والستينيات.

لحّن منير مراد لمعظم مغنّي عصره الكبار، وشكّلت ألحانه اتجاهاً خاصاً إذ يمكن تمييزها بين مئات الألحان كصورة عنه. عدا أن الفنان ذا الوجه الباسم الذي شكّل مرآة لألحانه، رحل بصورة مفاجئة حزيناً ووحيداً، مخلفاً وراءه كماً هائلاً من الألحان التي كانت ركناً مطلوباً في السينما، إضافة إلى تأليفه مقطوعات صاحبت عروض أهم راقصات عصره، مثل تحية كاريوكا وسامية جمال.

تتشكّل جمالية أغنية "لعب وضحك وجد وحب"، التي لحنها لعبد الحليم، عبر ذلك الطابع المارشالي أو الإنشادي الذي يتغنى بالحياة؛ فتتصاعد الموسيقى مع أصوات الكورس البشرية، في ملمح مارشالي بصيغة فرائحية بهيجة، وبجمل لحنية شديدة البساطة. في ذلك العصر الذي ازدهرت خلاله أغانٍ ثورية، كان النشيد لحياة يتقاسمها الضحك واللعب والجد والحب.

يبدو بناء الأغنية، في بعض مواضعه، مشاغباً عبر أصوات الكورس اللعوبة، ومغلفاً بجدية إيقاعية في المارش، وأيضاً في بعض التلوينات الهارمونية، ليتحول إلى مقام الراست الذي يحتوي ثلاثة أرباع التون مع إيقاع بلدي، عندما يغني "أيوة يا دنيا أيوة كدة، عمري ما شفتك حلوة كدة". لكن الجملة اللحنية تلك، لا تستحضر أي ملامح طربية.

ومع تغير الاتجاهات الغنائية، سواء بشكلها الاستعراضي، أو باتجاهها الشعبي، خلال السبعينيات، تضاءل الاهتمام بألحان منير مراد، ليعيش أواخر حياته منعزلاً وبعيداً عن الأضواء، شبه منسي. فينطفئ صاحب البسمة الواسعة حزيناً ووحيداً، مع أن أغانيه ما زالت تبهج المستمعين حتى الآن.

المساهمون