"بحث" لشاغانتي: تقنيات العصر في دراما عائلية مؤثّرة

"بحث" لشاغانتي: تقنيات العصر في دراما عائلية مؤثّرة

13 أكتوبر 2018
"بحث" لآنيش شاغانتي (فيسبوك)
+ الخط -
تكمن إحدى أجمل مفاجآت عام 2018 في المديح الكبير الذي ناله Searching، أول أفلام المخرج آنيش شاغانتي (1991)، منذ بدء عروضه التجارية الدولية، في 24 أغسطس/آب 2018، مُحقِّقًا 65 مليونًا و172 ألفًا و354 دولار أميركي كإيرادات لغاية 10 أكتوبر/تشرين الأول 2018، ويُتوقّع ارتفاع الإيرادات تلك مع مرور الوقت، فيُصبح الفيلم أحد أكثر التجارب السينمائية الذكية واللافتة للانتباه هذا العام.
ينتمي "بحث" إلى نوع سينمائي جديد يُمكن تسميته "أفلام رقمية"، أي تلك التي تدور بالكامل على شاشة كمبيوتر أو هاتف محمول أو كاميرات مراقبة. نوع كهذا نتيجةٌ منطقية للتطوّر والهوس التقنيين في الأعوام الـ10 الأخيرة، باستغلال وسائل التواصل الاجتماعي. غالبية الأبطال مراهقون في نوعٍ كهذا يحاول ابتكار "طرق سرد جديدة" تتناغم مع ذلك. "بحث" لم يبتكره، إذْ سبقته أفلام عديدة، أشهرها وأهمها Unfriended (2014) لليفان غابريادزه والجزء الثاني منه Dark Web (2018) لستفان سوسكو. لكن "بحث" تعامل بشكل أكثر جدية واهتمامًا وذكاءً، إذْ استغلّ كاتباه آنيش شاغانتي (المخرج) وسِفْ أوهانيان، الإمكانيات المتاحة لهما لتحقيق فيلم "إثارة" من النوع المتماسك، الذي يمتلك ـ في الوقت نفسه ـ أثرًا عاطفيًا وحكاية درامية قوية.




يبدأ العمل بـ"فوتومونتاج" من الصُوَر والفيديوهات على شاشة كمبيوتر ستبقى حاضرة مدّة الأحداث كلّها، ويكشف العلاقة المتينة بين أفراد عائلة كيم، الأب والأم والابنة، التي (العلاقة) تنتهي بوفاة الأم بعد إصابتها بمرضٍ سرطانيّ منذ عامين. نشعر منذ البداية بأن الصلة بين ديفيد ومارغو تأثّرت. تبدأ الأحداث فعليًا، من خلال الشاشة وتطبيق Facetime للمكالمات والرسائل، باختفاء الابنة فجأة، وعدم ردّها على رسائل والدها، فتنطلق رحلة بحث عنها، ومحاولة اكتشاف حياتها الاجتماعية عبر المواقع التي تشترك فيها ("فيسبوك" و"تامبلر" و"إنستغرام" و"يوتيوب" وغيرها). هذا كلّه يضيف شيئًا للحكاية، ويرفع نسبة الإثارة، ويزيد من الأسئلة المتعلّقة باختفائها، وبالصلة المفقودة بينها وبين والدها.
أبرز ما في "بحث" هو السيناريو بارع الذكاء. ففي الأفلام المشابهة، يكتفي الصنّاع بـ"فكرة" مختلفة، وبقشور حكاية مثيرة، في حين أن لـ"بحث" دراما أخرى تُروى عن العائلة، منذ اللحظة التي يمسح فيها ديفيد ما كتبه لابنته في مطلع الفيلم: "أمك كانت لتفخر بك"، وهذا يوحي بوجود شيء مكتوم عنه بينهما، وأثرٍ جانبيّ لغياب الأم لم يُمحَ. وبتتالي الأحداث، يحافظ السيناريو على جانبين لحكايته:
الأول معدّل الإثارة والكشف في الرحلة الرقمية التي تُقام في أيام عديدة. علمًا أن "فصول العمل" تُقدِّم قصصًا جانبية ومعلومات خاطئة عن الفتاة فتزداد الشكوك حول اختفائها (هل هربت أو انتحرت أو خُطِفت)؛ لكن هذا الأمر مقبول إذْ أنّ جانبًا من قيمة الفيلم كامنٌ في إشراك المُشاهد في رحلة "بحث" الأب، لإدراك الأمور والشكّ فيها معه، والسير في مسارات خاطئة بمشاركته أيضًا، وبالتالي لا يكون الأمر مزعجًا أو مجرد "إلهاء" أو للحفاظ على معدل الإثارة (وهو ناجح جدًا في ذلك)، فالأهمّ أن هذا جزءٌ من "السرد" في فيلمٍ عنوانه "بحث".
الثاني، وهو الأكثر قيمة للفيلم، كامنٌ في الطاقة العاطفية الهادئة التي يحافظ عليها السيناريو طوال أحداثه. فهو ـ مرة أخرى ـ يضعنا في خانة الأب، ذلك الذي لا يعرف أي شيء عن ابنته في العامين الأخيرين. نرى، عبر حساباتها الإلكترونية، مدى وحدتها، وكيف تشكّلت علاقاتها القليلة، ونشكّ في علاقتها بعمّها، أو بأحد الفتيان في المدرسة، أو بفتاةٍ خارج المدينة. في هذا كلّه، يزداد الشعور بالصلة المقطوعة بينها وبين الأب: "أنت لم تكن تعرف عنها شيئًا، وتتخطى الحديث عن الشيء الوحيد المهمّ في تلك الفترة"، كما يُخبره شقيقه في أحد أهم المشاهد، لتكون حكاية "العائلة" الشيء الحقيقي الذي يرويه الفيلم (كيف حُلَّ لغز الاختفاء داخل عائلة أخرى تحاول الحفاظ على نفسها؟)، وهذا هو الفرق الذي جعله أفضل بما لا يقارن بأي فيلم "رقمي" آخر أُنجز في الأعوام القليلة الأخيرة، فصنّاعه يُدركون تمامًا ما يحكونه. وحين يكتب الأب في نهاية الفيلم أن "أمك كانت لتفخر بكِ" (كردّ على مسحها في البداية)، يترك فينا أثرًا أكبر من "فيلم إثارة مختلف"، لأنه ـ إلى جانب قيمته السردية واستغلاله البارع للجوانب التقنية كلّها لتطوير أحداثه ـ يملك ما هو أكبر من ذلك أيضًا.

دلالات

المساهمون