"فتاة البالون" لبانكسي... متى يبدأ العمل الفني ومتى ينتهي؟

"فتاة البالون" لبانكسي... متى يبدأ العمل الفني ومتى ينتهي؟

10 أكتوبر 2018
سخرت اللوحة من الباعة والمشترين (ميخائيل تيريشينكو/Getty)
+ الخط -
ليس من السهل أن يفقد العمل الفنيّ قيمته الماديّة، إلا في حالات التزوير أو الغش. سوق الفن يعتبر من أكثر المساحات الربحيّة أماناً، بالرغم من التغيرات التي تطرأ عليه كما حدث عام 2008، إلا أن العمل الفني المعاصر، أصبح سلعة لا تفقد قيمتها. لنأخذ، مثلاً، أسعار أعمال جيف كونز وآندي وارهول -بالرغم من وفاة الأخير- فهي ما زالت في تزايد، وتشكل ملاذاً آمناً لمن يريدون حفظ أموالهم أو التهرب من الضرائب، ما جعل الجهد الفنيّ ليس فقط سلعة، بل سوقا تتم فيه المضاربة بين الجامعيين وأصحاب المزادات وصالات العرض، حتى أن بعضهم يزايد على نفسه لشراء قطعة ما، في سبيل الحفاظ على ثمن باقي أعمال الفنان، الذي لم تعد مهارته هي المعيار الأول في عملية البيع والشراء، بل قدرته على الترويج لاسمه والانصياع الكامل للسوق، الذي يمنع الواحد منا، نحن أصحاب الدخل المحدود، من اقتناء قطعة أعجبتنا، مفقداً النشاط الفنيّ جماهيريته، لنصبح متلقين فقط، لا فاعلين في خلق القيمة الفنيّة.
لا يمكننا إلا أن نضحك عند مشاهدة لوحة بانكسي، "فتاة البالون"، تتمزق آلياً، بعد أن ضرب القائم على المزاد بمطرقته معلناً بيعها بما يتجاوز المليون جنيه إسترليني. فالفنان المجهول يسخر ويتحدى السوق نفسه، ذاك الذي يهيمن على "الفن"، عبر تحويل لوحته إلى مصيدة كوميديّة بانتظار أن تمد لسانها بوجه ضحيتها، ولو بعد سنوات من الانتظار.
عملية التخريب الذاتي هذه، تحيلنا إلى مقاربة أخرى للعمل الفنيّ، لا بوصفه منتجاً صرفاً يمكن بيعه وشراؤه، بل بوصفه حدثاً ذا قيمة مباشرة تخلخل العالم وتغير من طبيعته ذاتها، ليتحول النشاط الفنيّ الجماليّ إلى مواجهة مع السلطة بأشكالها؛ إذ لا تهم اللوحة حقيقة، بل الخلل الرمزي والأثر المادي اللذين سببتهما. هي فككت وسخرت من سلسلة من الباعة والمشترين وفضاءات العرض وتكاليف النقل وإقامة المزاد، وكشفت سذاجتها واصطناعها، مضيئة على مجموعة القوة والعلاقات التي جعلت لوحة، يمكن لبانكسي إنتاجها متى يريد، مرة أخرى، بقيمة تبلغ سعرا خياليّا.
تفخيخ بانكسي للإطار يذكّرنا بتقاليد علم الجمال التي يلعب فيها الإطار دوراً رمزياً، باعتباره فاصلاً بين مساحة الجهد الفنيّ وبين الخارج اللافنيّ، ولطالما بقيت هذه المساحة مهمشة، أو ذات وظيفة بحتة. لكن بانكسي، هنا، يخلخل حدود العمل الفنيّ، ومتى ينتهي ومتى يبدأ، فهل ما هو داخل الإطار "فن" وما خارجه "قمامة"؟
هذه التساؤلات تترك مفتوحة لمن يرغب في شراء ما تبقى من اللوحة، إن عرضت للبيع، كما أنها تفتح الباب على الحدود الموضوعيّة التي تفصل الفنيّ الراقي -نظرياً- عن اليومي المبتذل. هل يعتبر تفخيخ الإطار جزءاً من العمل الفنيّ أم استمراراً له، ما يجعله منتجاً غير ثابت، يتغير مع الزمن وتحت أنواع محددة من التهديد، وكأن العمل الفني قنبلة موقوتة، تنفجر لتكشف عن مواضع الهيمنة ومساحاتها، ليتحرر "العمل الفنيّ" من تعريفاته التقليديّة وزمن إنتاجه وبيعه، وبصورة أدق، يتحول العمل الفنيّ إلى عارضٍ يبرز تحت شروط محددة، لا صفة جوهرية له، وكأنه كيان متغير دوماً. يذكرنا هذا بما فعله الفنان الأميركي بول كوس، الذي عرض قطعة جليد تتلاشى مع الزمن، تتغير طبيعتها وتكوينها بحسب الشروط التي تخضع لها.
التخريب الذي مارسه بانكسي وجعله استعراضاً مرتبطاً بموقف نقديّ راديكالي، يتحول إثره الجهد البشري الجماليّ إلى فعل "action"، لا يكون فيه العمل الفنيّ مجرد شكلٍ ثابتٍ يعكس خصائص العصر، بل حوارا وجدلا يخلقه الفنان مع المتلقي، ويدفعه للفعل ويؤثر فيه، خصوصاً أن تاريخ الفن، وأشكاله، لطالما كانت انعكاساً لشروط جماليّة، سواء ربانيّة أو سياسيّة؛ فسقف الكنيسة السيستينيّة الذي تزينه رسومات مايكل أنجلو لا يختلف عن نسخة من نسخ صور مارلين مونرو التي أنتجها أندي وارهول، فكلاهما غرضان سحريّان، يعكسان أشكال الهمينة الدينية والاستهلاكيّة.
لكن مع التخريب، يفضحُ الفنان الأثر الخفي، ليكون العمل الفنيّ أشبه بعلامة بدرجة الصفر، تكشف بتلاشيها/تفعيلها عن خلل السلطة والنظام اللذين يجعلان العالم بشكله الحاليّ قمعياً، ومحكوماً بأصحاب الياقات، الذين يريدون التهرب من دفع الضرائب، وربما يشترون "اللوحة الممزقة" بضعف الثمن، كونها تحولت إلى جزء من تاريخ الفنّ.

المساهمون