في أحوال السينما الفلسطينية [1]: صدام أسلوبين.. أو تكاملهما؟

في أحوال السينما الفلسطينية [1]: صدام أسلوبين.. أو تكاملهما؟

07 اغسطس 2017
آن ماري جاسر (فيسبوك)
+ الخط -
يستحيل اختصار تاريخ مديد من "صناعة" الأفلام الفلسطينية، التي أنجزها فلسطينيون مقيمون في فلسطين المحتلّة، أو التي تناولت فلسطين، أرضاً وشعباً وقضية وحكايات، التي حقّقها عربٌ وأجانب. فـ "صناعة" الأفلام الفلسطينية ـ وإن لم تؤدّ إلى تأسيس صناعة سينمائية متكاملة، على غرار الدول الصناعية الكبرى ـ أنتجت حالة سينمائية متناقضة في مقارباتها أحوال فلسطين وناسها، والتبدّلات التي عرفتها فلسطين، وعاشها ناسها. 

حالة متناقضة ترتكز على نمطين: غيَّب الأولُ الفردَ الفلسطيني لحساب الجماعة والقضية والنضال، ولمواجهة المحتلّ والإمبريالية والاستعمار، عبر عدسة تضع الفلسطيني في خانة من اثنتين: الضحية أو البطل؛ واستعاد الثاني الفردَ من تغييبه القسري، مُعيداً إليه نبضاً حياتياً، ومتعاملاً معه كإنسانٍ، قبل أي شيء آخر. نمطٌ أول، أراد المنخرطون فيه، عن قصد أو بعفوية، أن يجعلوا السينما أداة نضالية تقارع المحتلّ وحلفاءه، وتنصرف عن الهموم الفردية بحجّة أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". ونمطٌ ثان، أراد مؤسّسوه والعاملون فيه، عن وعي معرفي وجمالي وثقافي، أن يكون الفرد الفلسطيني جوهر الحكاية، وأن تكون همومه أصل النصّ السينمائي، وأن تتحوّل مساراته الخاصّة إلى رافدٍ حيوي وأساسي للبلد المحتلّ، ولناسه المقيمين فيه، ولأبنائه المنتشرين في العالم.

ليس تبسيطاً أو تسطيحاً للمسألة، المفتوحة على نقاش نقدي لا ينتهي، لكن إلقاء نظرة على واقع صناعة الأفلام الفلسطينية، منذ بداياتها حتّى اليوم، يشي بقراءة كهذه، تبحث في جذر التناقض وأسبابه. فالنمط الأول مرتبط بمراحل سياسية وأمنية وثقافية ضاغطة، حتّمت إدخال الصورة السينمائية، التوثيقية أو التسجيلية أساساً، في عمق الصراع، المحتاج إلى تضافر الجهود والوسائل كلّها في معركة المصير الفلسطيني. والنمط الثاني مرتبط بالتحوّل الذي شهدته السينما العربية، عامةً، منذ مطلع تسعينيات القرن الـ 20 تقريباً، والذي أسّس مرحلة جديدة في تاريخها، تنطلق من التنبّه الواعي إلى أولوية الصنيع السينمائي، كفن وتقنيات ورؤى جمالية للصورة، القادر (الصنيع) على استكمال الصراع بأشكالٍ أكثر سينمائية وإبداعاً بصرياً.

ارتبط النمط الأول بأعوام مديدة من الصراع، لم تكن الغالبية الساحقة من المعنيين به راغبة في مناقشته ومناقشة أساليبه، أو في التنبّه إلى أخطاء وقع فيها. بينما تحرّر النمط الثاني من سطوة الإيديولوجيا، ومن التبعية للجماعة، ومن الخطاب المنغلق على نفسه، من أجل الفرد، لكن أيضاً وأساساً من أجل سينما تمتلك حيويتها البصرية المطلوبة كفنٍ ولغة وجماليات.

هذا كلّه بفضل براعة الاستفادة من اختبارات جمالية غربية، ومن توسّع آفاق الثقافة الإنسانية العامة، ومن رغبة عميقة في التعاطي مع الذات وليس مع العام، أو في التعاطي مع الذات كمدخل إلى فهم العام؛ وأيضاً من رغبة في سرد الحكاية الفردية، بدلاً من الاكتفاء بالخطاب الجماعي، أو في سرد الحكاية الفردية كجزء أساسي من الخطاب الجماعي، يُكمِّله أو يُضيف إليه أو يُضيء بعض جوانبه.

هذا لا يعني أن سمات عدّة من النمط الأول ليست حاضرة في النتاجات الحديثة أحياناً، وأن بعض مناخات النمط الثاني لم تنوجد سابقاً، وإن للحظات عابرة.
فعلى الرغم من أن النمط الأول لا يزال منتشراً في راهنٍ سينمائيّ فلسطيني، يصنعه فلسطينيون وعربٌ، إلاّ أن النمط الثاني ـ بمفرداته الثقافية الحديثة، وبمشروعه السينمائي الهادف إلى توثيق الحكاية الفردية قبل اندثارها (وهو توثيق سينمائي، يرتكز على مفردات الصنيع البصري المتكامل، بالشكلين الروائي والوثائقي معاً) ـ يُنتج أفلاماً تمزج الدراميّ بالجماليّ، وتروي تفاصيل ذاتية وشخصية للفرد، وتنفتح على وقائع السياسة والاجتماع والاقتصاد والحياة اليومية والبيئات الفلسطينية المختلفة؛ من دون تناسي الخطوات الإبداعية الجمّة التي دفعت الوثائقي إلى مراتب جمالية مثيرة للانتباه والمتابعة.

وإذْ يبدو النمط الأول أصلب في معاندته مفردات النمط الثاني، فإنّ هذا الأخير يستكمل مشروعه، بفضل سينمائيين عديدين يلتزمون، أكثر فأكثر، أولوية الحكاية الفردية، وإمكانية "الدخول" إلى فلسطين من زوايا أخرى، قد تكون أهمّ وأجمل. وأيضاً: الدخول إلى "مناطق" حسّاسة في الثقافة العامّة، كسؤال العمليات الاستشهادية/ الانتحارية ("الجنّة الآن"، 2005، هاني أبو أسعد)، وعلاقة المرأة بحياتها الخاصّة وسط "فوضى" الحياة اليومية والصراعات غير المنتهية (أفلام شيرين دعيبس وآن ـ ماري جاسر، مثلاً)، ومعنى ارتباط زوجة الأسير بذاتها وحكايتها وموقعها الإنساني وسط الجماعة ("المرّ والرمان"، 2009، نجوى النجّار)، وغيرها.

هذه أمثلة تعكس شيئاً من حيوية حراك ثقافي في صناعة أفلام فلسطينية حديثة، ينبع من أولوية طرح الأسئلة الذاتية، وإن يُنتَقد طارحوها بسبب جرأة الأسئلة في مقاربتها واقعاً فلسطينياً، يُشبه وقائع إنسانية عرفتها البشرية في تاريخها، وتاريخ صراعاتها المختلفة. أمثلة تُقدِّم نماذج عن كيفية تحوّل المسار التاريخي لهذه الصناعة، وكيفية كشف بعض المبطّن، وتناول غير المألوف.


(*) مقتطفات من دراسة أطول تُنشر لاحقاً.




دلالات

المساهمون