"يا عمري" للّبناني هادي زكّاك: بساطة الحكاية والتصوير

"يا عمري" للّبناني هادي زكّاك: بساطة الحكاية والتصوير

03 ابريل 2017
هادي زكّاك في فيلمه الوثائقي الجديد "يا عمري" (يوتيوب)
+ الخط -
تتعدّد العناوين العامّة لـ "يا عمري" (2017)، الوثائقيّ الجديد للّبناني هادي زكّاك (1974). فرغم أن النواة الأصلية مرتبطة بسرد حكاية العجوز هنرييات (104 أعوام)، إلاّ أن هوامش أخرى تفرض نفسها على المشهد، انطلاقاً من الحكاية نفسها، أو من عالم الشخصية، والمحيطين بها. ومع أن العجوز تغطي المساحة كلّها، إلا أن منافذ عديدة تتيح طرح تساؤلات عن مسائل إنسانية، كالشيخوخة ومصيرها، والأزمنة وتحدّياتها، والخيارات الذاتية ونتائجها، والسلوك الفردي وتأثيراته.

وهذا يترافق مع بحثٍ مبسّط في مفاهيم أخرى، كالعلاقات، والحب، والزواج، والعائلة، والعمر، والانفعال، والهجرة، والمَوْطِن الأصليّ. فهنرييات ـ التي يضعها هادي زكّاك أمام كاميراه (تصوير موريال أبو الروس) في مراحل زمنية مختلفة (وإنْ تطغى عليها مراحل العمر المتقدّم) ـ تُشكِّل جوهر النصّ ومناخه، وتفتح نوافذ على ذاكرةٍ وخيباتٍ وأحلامٍ معلّقة، وتأخذ حفيدها المخرج إلى رحلة في الجغرافيا والذات والذكريات، مع أنها تفقد أجزاء كثيرة من ماضيها وراهنها، بسبب وطأة السنين عليها، وعطب التذكّر، وألم الانفصال عن أزمنة تنسلّ بين يديها.

لكن العناوين لن تكشف مضامينها بشكل مباشر، ولن تتحوّل إلى نصٍّ أساسيّ، لانشغال "يا عمري" بالحكاية الأصلية: راهن هنرييات، وبعض ماضيها. وهذا إما بالتواطؤ معها (أي عندما تنفتح ذاكرتها على معروفٍ لديها، وإنْ يكن قليلاً)، وإما برغبةِ الكاميرا في الانجراف إلى متاهة العمر وكواليسه المنغلقة على ذاتها. والتواطؤ جميلٌ، غالباً، رغم قسوة الزمن المنعكسة على الجسد، والنظرة الشاردة، والتوهان خارج كلّ راهنٍ.

مع هذا، فإن المسار الحكائيّ لن يُقدِّم شيئاً كثيراً من ذاك الماضي، بقدر ما يبقى آنياً في كشفه ملامح التقدّم بالعمر، التي تظهر على الوجه واليدين والجسد، وعلى الحركة والنطق والتذكّر، وعلى العلاقة، شبه الصامتة، بين هنرييات وذاتها، إما باستعادتها حكاياتٍ متفرّقة لا تزال حاضرة في وعيها، وإما بمشاهدتها صُوَراً وأشرطة عنها ولها، أو عن مدنٍ وبواخر ومياهٍ وأمكنةٍ تعرفها، أو عن أشخاصٍ لهم عندها معزّة، ولها فيهم انفعالٌ.

لن تقول هنرييات أكثر من لمحات عابرة عن تاريخ شخصيّ مديد. فالذي تتذكّره قليل، والذي يرويه هادي زكّاك لها، منقولٌ عنها في أوقاتٍ سابقة (يقرأ المخرج بعض ذلك في دفترٍ، يُخبر جدّته أنه يحتوي على حكايات مروية له على لسانها في فترات سابقة). وبين ما تتذكّره وما تسمعه من حفيدها عنها، يبني المخرج الوثائقيّ فيلمه الجديد هذا (83 دقيقة)، مستعيناً بصُوَر فوتوغرافية، وأشرطة تسجيلية، وتصوير داخل الأمكنة القليلة لهنرييات، ولعالمها الصغير والهادئ. والمادة البصرية هذه، الموزّعة على أوقاتٍ مختلفة، تُظهِرها في مناسبات عديدة: زيارة عائلية، احتفال بعيد ميلادها (أكثر من مرّة)، تصوير خاصّ بالفيلم، محاولات تذكّر، تعليق أو إضافة على بعض ما تتذكّره، إلخ.

في مقابل المادة البصرية هذه، يُطرح سؤالٌ حول مغزى تقديمها في فيلم وثائقيّ، بعد توليفها (هادي زكّاك والياس شاهين). فهي (المادة) تكشف ترهّل الجسد، وعطب التذكّر، وثقل الشيخوخة وتعبها (هذا مثير لارتباك بعض مشاهديه، إزاء معنى تصوير عجوزٍ في عمر متقدِّم، و"رفضهم" إياه). والحكايات قليلة، والغنى الدراميّ متواضع، والعلاقة الإنسانية بين الحفيد والجدّة غير قادرة عن الخروج على بساطة السرد وعاديّته.

لكن جمالية "يا عمري"، في المقابل، تكاد تكون حاضرةً في هذا كلّه، تحديداً. إذْ يبدو هادي زكّاك غير معنيّ بنقل تجربة فردية إلى ما هو أبعد وأعمق وأوسع من كونها "تجربة فردية" محضة، وإنْ لن تروي الكثير، ولن تبوح بالكثير، ولن تستعيد الكثير، ولن تؤرّخ للكثير، ولن تحصِّن الكثير من تلف النسيان. تجربة امرأة ترافق قرناً بكامله، قبل أن تنسحب منه إلى مثواها الأخير، حاملةً في أعماق روحها وذاتها "خيبة" مريرة من عمرٍ وحياةٍ، كانت ترغب في أن يكونا مختلفين تماماً (وهي تقول هذا في لحظة إنسانية هادئة وعفوية، في لقطة تكاد تكون الأجمل والأنقى والأصفى).

إسقاطات عديدة يُمكن لتعليقٍ نقديّ أن يكشفها، إزاء فيلمٍ محمَّل بكمٍّ من المشاعر والهواجس الإنسانية. لكن "يا عمري" ـ بتفاصيله البسيطة والهادئة والعادية، وبأسلوبه السرديّ المتواضع، وبلقطاته المشغولة بهمٍّ ذاتيّ للمخرج في قول بعض الحبّ للجدّة والسينما والحياة، رغم المرارة والخيبة والألم الدفين ـ يهتمّ بتوثيق الأهمّ: أن يجعل الصورة السينمائية تعبيراً عن فعل عيش (مهما تكن تفاصيل هذا العيش)، وتحدّي قسوة، كما عن مواجهة العالم بابتسامةٍ تخبّئها تجاعيد، وتحميها نظرةٌ مليئة بالتباسات التاريخ والروح والحكايات.

ربما لهذا كلّه، يُفضَّل أن يُشَاهَد "يا عمري" (يُعرض حالياً في صالة "متروبوليس ـ أمبير صوفيل" في بيروت) بعيداً عن كلّ تفسيرٍ أو تحليلٍ أو تنظير. ذلك أن أفلاماً عديدة يُمكن أن يكون تواضع اشتغالها سبباً لمتعة المُشاهدة فقط، و"يا عمري" أحدها.




المساهمون