أبو بكر سالم "ورد" الفن الخليجي

أبو بكر سالم "ورد" الفن الخليجي

12 ديسمبر 2017
عمل أبو بكر سالم مدرسًا لمدّة ثلاث سنوات(Getty)
+ الخط -
لم تعد كلماته مفهومة، فقد خسر أغلى ثرواته وثروات الدان الحضرمي والفن اليمني خلال العام الأخير من حياته (صوته)، واتضح ذلك جليّاً خلال أدائه لدويتو قصير مع الفنان اليمني الشاب فؤاد عبد الواحد، مطلع العام الجاري (بخنجر يماني).

شاب من أسرة صوفية كان أرقى ما تصله أن تنشد شعراً في مدح الرسول، وهو ما فعله أبو بكر سالم بلفقيه كطالب ومعلم للغة العربية في خمسينيات القرن الماضي، قبل انتقاله إلى عدن ليؤدي عبر أثير إذاعتها أغنيته الحية "يا ورد"، وهي من كلماته وألحانه ولم يتجاوز الـ18 من عمره.
امتلك أبو أصيل ملكات فنية ولغوية لطالما افتقدها أغلب الفنانين، وهي جمعه بين كونه شاعراً وملحناً وموزعاً موسيقياً وفناناً ذا حنجرة اعتبرت من نوادر الحناجر الفنية على مستوى العام، وحصل على تكريم "يونسكو" في العام 1978 كثاني أجمل صوت عالمي، أي قبل الأديب عبدالله البردوني الذي حصده بعده بأربعة أعوام، وهما ذروة ما وصلت إليه الفنون والآداب في اليمن خلال القرن العشرين. إلا أن بلفقيه واصل مسيرته حتى العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ليصبح أسطورة القرنين الفنية في اليمن والخليج أيضاً، فلطالما كان مرجعاً لفنانين خليجيين، كالرويشد وعبدالمجيد عبدالله وحتى الراحل طلال المداح الذي ردد كثيراً الأغنية الأولى لبلفقيه "يا ورد".
كفنان يمني انطلق من عدن، وذاع صيته من بيروت، منحته إحدى الشركات اليونانية جائزة الأسطوانة الذهبية بعد عشرة أعوام على إقامته في بيروت بعد تجاوز مبيعات أسطوانته ("متى أنا شوفك"، "يا كامل وصوفك") لحاجز المليون أسطوانة، ولم يصل إلى هذه المرتبة يومها سوى بلفقيه والعندليب عبدالحليم حافظ.
أخذ بلفقيه اسمه عن جده الصوفي والعالم الشهير أبوبكر بن شهاب، جده لأمه، وغنى له قبل وفاته بفترة وجيزة مدائح دينية في حب الرسول بألبومه "الرشفات"، كما بدأ عهده بصوته كمؤد للأناشيد الدينية في مدينة تريم حضرموت، التي حضرت في أغانيه على الدوام، وهو وحيد الإخوة لأن أباه مات شاباً وعمر ولده (أبو بكر) 8 أشهر فقط، ولهذا كان تأثير أسرة والدته عليه قويا كأسرة دينية متعلمة ومتصوفة.
وصل إلى عدن وانفتحت أمامه أبواب الجماهير عبر إذاعتها الأقدم في شبه الجزيرة العربية، لكن بيروت كانت نقلته النوعية، وعندما نشبت الحرب الأهلية فيها اضطر للمغادرة إلى مدن الخليج والتنقل بين جدة والكويت، إلا أن القاهرة كانت هوى فؤاده الجديد، فقد استقر وتردد أكثر ما يكون على منزله في حي المهندسين بالقاهرة.



كانت صنعاء عاصمة الثقافة العربية في العام 2004، وكان أبرز ملامح احتفائها بالمناسبة إحياء أبو بكر سالم حفلات متعددة في حضرموت مع عدد من فناني الخليج العربي وخاصة ذوي الأصول اليمنية، كالفنان عبدالرب إدريس. وكان حضوره بجهود من صديقه الراحل الشاعر والملحن والدبلوماسي علي الخضر، أحد مجددي الفن اليمني في القرن العشرين.
لغته العربية السليمة كمعلم للغة العربية لـ3 سنوات في مطلع صباه منحته الحس اللازم لتذوق كلمات أغانيه أو تأليفها، قبل أن يشكل أشهر ثنائي فني في اليمن والخليج مع الشاعر والملحن الراحل حسين أبوبكر المحضار، الذي تعرف عليه في عدن منتصف الخمسينيات إلى جانب لطفي أمان والمرشدي. وظل لسانه لا ينحرف عن مستقيم اللغة حتى اللحظة الأخيرة.
في برنامج فني غنى الفنان اللبناني راغب علامة "أنت في الدنيا قضية ما تحملها ملف"، وهي من كلمات المحضار وأداء بلفقيه. لكن علامة نسبها للتراث الفني الخليجي قبل سنوات، وذلك عن جهل بالموروث الغنائي اليمني الذي استقى منه الفنانون الخليجيون ألحانهم الشهيرة، ويعد أحد أبرز الموروثات العربية الفنية، وهذه مشكلة يمنية مزمنة ساعد الحضور العربي لبلفقيه على تجاوزها نسبياً بتعريفه بالفن اليمني على الساحة العربية.
في دمشق العام 2007، كنت أبحث عن أية نكهة يمنية، لأُفاجأ بسائق التاكسي يرفع صوت أبو بكر من سماعات سيارته، ويتماوج برأسه مع الدان الحضرمي المسكر. لكنه قال لي إنه لا يعرف شيئاً عن اليمن سوى هذا الصوت العظيم، وكان ذلك يكفيني للاستغناء عن وجبة "المندي" الحضرمية في قلب المرجة، فهي تتحدر من المنطقة نفسها التي أثرت ألحان بلفقيه لستة عقود زمنية كاملة، إنه الماركة اليمنية الأشهر في العالم.

أبو بكر فنان أصيل بكل تفاصيل حياته، حتى في أبنائه وأسمائهم (أديب، ألحان، أنغام)، وقد نقل الدان الحضرمي لينتشر كأعذب عدوى في عواصم الخليج العربي، حتى حصل على أوسكار الأغنية العربية، ومنحته بيروت بركاتها لمرور نصف قرن على انتقاله إليها (1958) ومنها إلى العالم صوتا ولحنا وطربا.
طور مدرسة الفن الصنعاني وأضاف للفن اللحجي، وأتقن الدان الحضرمي، وهي أبرز ثلاث مدارس فنية في اليمن، وبهذا كان أول ملامح الوحدة اليمنية حتى قبل اتحاد الكتاب والأدباء اليمنيين الذي كان البردوني عموده الأول (1971).

في تسعينيات القرن الماضي، أضاف نكهة جديدة لمسيرته عبر اشتراكه في مطالع سريعة لثلاث أغنيات إحداها للفنانة وردة الجزائرية، والأخرى للفنان عبدالله الرويشد، والثالثة للفنانة ذكرى، التي شاركها الأغنية ولم يكتف بمطلعها فقط. وقد رحلت وردة ورحلت ذكرى وتبعهما أبو بكر، صاحب طبقات الصوت المعجزة التي منعت أغلب الفنانين من الإقدام على تقليد أغانيه، كون ذلك مخاطرة لا يستطيع أحدهم تحمل تبعاتها أمام عملاق كأبي أصيل. زرت المكلا عاصمة محافظة حضرموت (جنوب شرق اليمن) في 2010، وزرت مركز بلفقيه الثقافي في المدينة، كمنارة مرتقبة للفنون والآداب في المحافظة التي قدمت بلفقيه للعالم أواخر ثلاثينيات القرن الماضي، وكان ذلك من دواعي سعادتي البالغة.


دلالات

المساهمون