كامدن تاون... لندن تجمع العالم في سوق

كامدن تاون... لندن تجمع العالم في سوق

18 نوفمبر 2017
ملامح مختلف الحضارات موجودة في السوق (أولي سكراف/Getty)
+ الخط -
مَن يتجول وسط سوق كامدن تاون في العاصمة البريطانية لندن، يُخيل له أنه خارج إطار الزمن. فعلى أحد جدران بعض محلاته علق مجسم لعقرب عملاق تراه عن بعد، إلى جانب مجسم بنفس الحجم لعروس البحر، وعلى يمينها أيضاً مجسم كبير ومخيف لتنين صيني، إضافة لأحذية غريبة معلقة، بعضها من زمن الهيبيز من القرن الماضي. كل ذلك لا يقارن بوجوه الباعة التي غطتها وُشومٌ غريبة وحلقات تشبه المسامير.
هنا عليك أن تتوقع كل شيء. أن تأكل أي شيء. أن تغمرك الرائحة فتحلق بجناحين يطلان بك على المكسيك وتايلاند وبولندا وجزر هاواي والبرازيل والهند والمغرب ولبنان والفيليبين بل حتى التيبت. يقول هاني طه، صاحب إكسسوارات فرعونية وشمال أفريقية لـ "العربي الجديد"، إن وجوده في زقاق هذا السوق يشبه رحلة سياحية مجانية حول العالم، فهو يحلق في زمن قياسي من بلد لآخر من خلال التدفق الهائل للسياح على اختلاف الأعراف والألوان، هنا فقط يحس أنه لا ينتمي لهوية.
تأسس هذا السوق عام 1791، وكان حينها أشبه بمنطقة ريفية زراعية صغيرة وسط لندن. تنتشر حوله بعض من الفنادق البسيطة واسطبلات الخيل ومراسي القوارب وبيوت بنيت حول محطة القطار الأولى، جعلت المنطقة برمتها عبارة عن صلة وصل بين وسط مدينة لندن القديمة والمناطق الشمالية، إضافة إلى قناة المياه التي شكلت آنذاك عاملاً مهماً من العوامل الاقتصادية للمنطقة، وأحد الشرايين الأساسية التي تمد لندن بالماء وتربطها بباقي مناطق المملكة.
في بداية القرن العشرين أقيم سوق صغير للمواد الغذائية في طريق إنفرنيس بكامدن تاون. عام 1974 شهد المكان نفسه افتتاح سوق صغير لبيع المصنوعات اليدوية ذات الصبغة التقليدية. وهو السوق الذي جذب حرفيي لندن من القادمين من مختلف البلدان. اتسعت تلك الأسواق وتمددت فأصبحت اليوم عبارة عن ستة أسواق تتصل في ما بينها غير أنها لا تتشابه معمارياً. لكلّ سوق طرازه المعماري. يمشي المرء فيشعر كما لو أنه ينزلق من عصر إلى آخر، من قارة إلى أخرى.
هذه المنطقة الصغيرة التي يزورها ما يزيد عن 15 مليون شخص في السنة، بحسب الإحصاءات الرسمية الأخيرة، أصبحت محجاً للشباب المتمرد والباحث عن كل ما هو مختلف أكان من بريطانيا أم من خارجها. كل شيء في المنطقة يوحي بالتمرد، فوضى إنسانية هائلة وإن بدت على شيء من التنظيم. لم تمحُ السياحة أثراً من ظِلٍّ تركته عصا المايسترو على جدار. هناك جداريات في كل مكان. رسامون هواة مجهولون تركوا صورهم على الجدران الخشنة واختفوا. أحدهم رسم أعضاء فرقة البيتلز وهم يمدون أيديهم إلى تاج ملكة بريطانيا دون ترك هوية.
وسط هذه الفوضى المنظمة فوضى من نوع آخر، فعلى باب أحد الملاهي السوداء، كما يلقبها السياح، يقف حارس البوابة مرتدياً ثياباً من زمن الملك إدوارد، واضعاً شعراً مجعداً مستعاراً على رأسه يعود إلى القرن السابع عشر، وإلى جانبه آخر بزي الملك آرثر وقبعة عادية مع وضع بعض المساحيق على وجهيهما. قال صاحب الشعر المستعار الملقب بالملك ريتشارد، لـ "العربي الجديد" إنهما الحارسان الخاصان لملوك من زمن مختلف، وأنهما يتواجدان هنا فقط في مناسبات مختلفة حين تقام داخل المبنى الأسود والمخيف بعض الشيء حفلات لم يكشف عن نوعها. ويشرح أن هذا المبنى يعود للقرن الثامن عشر وأن داخله لم يتغير عدا بعض ديكورات الجدران والمراحيض وآلات الموسيقى.
هنا فقط ستستمع لصوت بول مكارثي وهو يغني ويعزف ويسافر. "لقد ضاع الكثير من الأوهام بين جبال التيبت". هناك القليل من محلات الهدايا التي تذكّر بلندن، أما الكثير فإنه ينتمي إلى الواقع الذي نظر إليه البريطانيون أيام الاستعمار بعينين حالمتين.
لم تصنع الملكة فكتوريا معجزتها حين غزت جيوشها العالم بل صنعتها حين جعلت لندن مدينة مفتوحة لكل الناس. في كامدن تتمدد بريطانيا العظمى كما لم تفعل على الخرائط. لا شيء من الخارج لم يتم إحضاره وإن كان مختلفاً.
لكن مَن يعرف لندن جيداً لن يفاجئه التنوع الصادم الذي يأخذ طابعاً استعراضياً في سوق كامدن. غير أن ما يفاجئ في تلك السوق أنها لا تزال تقيم بطريقة هادئة في عصر ما قبل الحداثة. مَن صمم سوق كامدن كان خبيراً بالأمزجة الشرقية قبل أن يكون خبيراً بما يناسب تلك الأمزجة من مبانٍ بريطانية عتيقة، وجعل لندن مدينة تفر من مركزيتها لتعيد إنتاج العالم.


المساهمون