الأغنية الوطنية المصرية: من النكسة إلى العبور

الأغنية الوطنية المصرية : من نكسة 67 إلى عبور 73

06 أكتوبر 2017
غنت سعاد حسني أيضاً لنصر أكتوبر (Getty)
+ الخط -
بقيت هوية الأغنية الوطنية في مصر لعقود طويلة مرتبطة بالشخص. شخص الملك، ثمّ شخص الرئيس. لكنّ هذه الحقبة انتهت، لتبدأ بعدها حقبة التجييش إثر حرب الأيام الستة عام 1967. غير أنّ حرب الأيام الستة كانت كافية لتنتهي هذه الحقبة بالنكسة التي رافقتها هزيمة وإحباط عند الجماهير المصرية والعربية. خفتت مرحلة الأغنية الوطنية لتعود وتنتعش بشكل واقعي وحقيقي بعد نصر أكتوبر/ تشرين الأول عام 1973. فباتت الأغنية الوطنية المصرية أغنية للوطن، للمقاتل، وللأرض، بعيداً عن الزعيم.

اتسمت الأغنية الوطنية، إذاً، قبل نكسة يونيو/ حزيران 1967، بإيقاع خاص يبالغ في تمجيد الثورة وقائدها. كان القائمون على الأغنية المصرية، مؤلفين وملحنين ومطربين، يؤدون دورهم كأنهم جنودٌ كُلِّفوا بتصدير الثورة والترويج لها، والتبشير بالدولة العظمى التي أصبحوا يعيشون في كنفها. بمنتهى السلاسة، انتقلت الأغنية الوطنية من تقديس الملك إلى تقديس الرئيس، وسرعان ما أصبح الوطن هو الزعيم.
غنت صباح من كلمات مرسي جميل عزيز وألحان محمد الموجي "أنا شفت جمال والنبي يامّا". وغنى عبد الحليم حافظ "يا جمال يا حبيب الملايين" من كلمات إسماعيل الحبروك وألحان كمال الطويل. وغنى محمد عبد الوهاب من ألحانه وكلمات حسين السيد أغنية "أكبر حب"، وفيها: "كان هو حبيب الشعب والشعب شاف ليلة قدره معاه/ أكبر من ده حب ما فيش غير حب الله وحبيب الله". وغنى فريد الأطرش من ألحانه وكلمات حسين السيد: "علم العروبة يا غالي/ يا منور فوق في العالي". وهكذا تعددت الأغنيات التي تسير في السياق الدلالي نفسه لكافة مطربي الصف الأول آنذاك.




لكن ما حدث في يونيو/ حزيران 1967 كان ضربة قاصمة للأغنية الوطنية التي اعتاد المصريون سماعها طوال العهد الناصري. فانطفأت شعلة الأغاني الوطنية الرسمية التي ألهبت حماسة الجماهير. وبات قسم كبير من المصريين يعتبرون أن هذه الأغاني كانت إلى جانب الإذاعة وسيلة من وسائل تضليل الرأي العام، حتى وإن غناها كبار المطربين المصريين آنذاك. بينما كان واضحاً أن هؤلاء الفنانين أنفسهم وقبل الغناء للرئيس جمال عبد الناصر، كانوا قد غنوا للملك، قبل انتهاء الملكية وإعلان قيام جمهورية مصر العربية.

من هذا الواقع الراكد موسيقياً، أقله مقارنة بدفق الأغاني التي سبقت نكسة عام 1967، بدا أن المفاجأة إحدى أهم سمات نصر أكتوبر، وهي مفاجأة هزت الشعب المصري الحزين أيضاً مثلما هزت العدو الصهيوني. يذكر عن الفنان علي إسماعيل أنه لم ينشد إلى أي شيء عند سماعه خبر العبور، لقد تعلم الرجل مثل كثير من المصريين ألا يصدق أنباء المعارك من الإذاعات الرسمية، لكن عندما تأكد من أن الخبر حقيقي، قام على الفور بتلحين أغنية المجموعة الرائعة من كلمات زوجته نبيلة قنديل: "رايحين رايحين شايلين فى إيدنا سلاح/ راجعين راجعين رافعين رايات النصر".




بعدها توالت الروائع التي تتغنى بهذا الإنجاز العظيم، فاستمتعت الجماهير بأغنيات شادية "يا حبيبتي يا مصر" و"عبرنا الهزيمة يا مصر العظيمة"، و"دولا مين ودولا مين" لسعاد حسني، و"الله أكبر باسم الله" للمجموعة، و"صباح الخير يا سينا" لعبد الحليم، و"حلوة بلادي السمرا" لوردة، و"أم البطل" لشريفة فاضل، ولهذه الأخيرة تحديداً الوقع ربما الأكثر تاثيراً حتى اليوم لأنها غنتها عن نفسها وعن حياتها بعدما فقدت ابنها في حرب أكتوبر، فطلبت بعد ثلاثة أشهر من استشهاد ابنها من الشاعرة نبيلة قنديل كتابة الأغنية، بينما لحنها زوج قنديل الملحن علي إسماعيل. وتردّد أن الفنانة فايزة أحمد دخلت مع شريفة فاضل استديو التسجيل لتساعدها على البقاء متماسكة أثناء التسجيل.




ومن الملاحظ أن معظم الأغاني التي تناولت حرب أكتوبر كانت للوطن الحقيقي وللجنود الذين عبروا، وقلما تغنى أحدٌ في تلك الفترة بالزعيم المنتصر باستثناء عبد الحليم وأغنيته "عاش اللي قال"، إذ اختفت المبالغة والتكرار الفج للمعاني ذاتها التي عرفتها الحقبة الناصرية.
وحتى اليوم لا تزال الأغاني الوطنية المصرية تتردّد في مناسبات كثيرة، ولم تمت أو تنتهي صلاحيتها كما هي حال الأغاني التي اعتبرت وطنية ومجدّت الزعيم، أو الملك.



ويرى الناقد الراحل كمال النجمي أن التغني بيوم أكتوبر وما تحقق من نصر على العدو الصهيوني لأول مرة منذ اشتبكنا معه سنة 1948 لا ترجع قيمته إلى ضخامة الكمية التي أنتجتها أجهزة الإعلام الرسمية من الأغاني بصوت مشاهير المطربين والملحنين، فقد يكون هذا اليوم أقل نصيبا من حيث الكمية الغنائية، ولكن الصدق والفرح والبُشرى التي حملتها كل أغنية للشعب كانت واعية وافرة، فقد استجابت الأغنية المصرية لهذا اليوم استجابة عفوية، لا تكلّف فيها، ولا محاولة لركوب موجة دعائية عشوائية لا يدري راكِبُها على أي شاطئ تلقيه، واندمجت الألحان في لهيب المعركة ودخانها كأنها تستمد منها الوحي والإلهام، وتلتقي عندها بروح الشعب وقلبه وضميره.



المساهمون