مقهى "بيكش": برلين ومراكش ومدن أخرى

مقهى "بيكش": فضاء يدمج بين ثقافات برلين

20 أكتوبر 2017
خلال النهار يكون "بيكش" بمثابة فضاء للعمل (العربي الجديد)
+ الخط -
قبل حوالي عام تقريبًا، كانت كلّ من لونا سبوع ونينا مارتن تتمشيان في أحد شوارع حيّ "فيدينغ" في برلين، تبحثان عن فضاء للعمل تنضمان إليه، وفضاءات العمل هو تقليد قائم في هذه المدينة، حيث تتشارك مجموعة من الناس من مجالات عمل متنوعة مساحات للإيجار يعملون فيها مقابل مبلغ ماديّ.

أثناء تجولهما في الحيّ الذي تسكنان فيه أيضًا، لمحتا مكانا معروضا للإيجار، حيث كان مهجوراً لمدة عاميْن بعد أن شُغل كازينو لمدة 8 أعوام. عندها، قررتا استئجاره وتأسيس فضاء للعمل ومقهى، يخدم كلّ من يبحث عن أجواء للعمل، للحاسوب أو للكتابة أو للاجتماعات، فيه مشروبات متنوعة وأكل. من ثم أنشأتا "بيكش"، والمسمى أيضًا بـ "أنتي – كافيه"، حيث التسمية الثانية جاءت من منطلق نقديّ تجاه الفضاءات التجاريّة التي تسيطر على المدينة كما العالم، لهذا جاء استخدام كلمة "أنتي" بالإنكليزيّة، أي ضد. لونا سبوع مغربيّة الأصل ومولودة في ألمانيا، ونينا مارتن ألمانيّة مولودة في شرق برلين. افتتحتا "بيكش" في شهر حزيران/ يونيو 2017. اختيارهما لاسم المكان جاء من دمج كلتا المدينتيْن اللتين تنتميان إليهما؛ برلين في ألمانيا ومراكش في المغرب.

ذهبتُ للقائهما عند أحد مساءات يوم الخميس، وهو يوم مخصص في "بيكش" لعروض موسيقى لموسيقيّين وفرق موسيقيّة ألمانيّة، عربيّة وغيرها. يحتوي المكان على طابق أرضيّ وقبو، عملت لونا ونينا على تصميم كلّ زاوية في المكان، حيث اعتمدت رؤيتهما الفنيّة على تفاصيل من روح ألمانيا الشرقيّة والمغرب، كما أغراض جُلبت معهما من بلاد زارتها كلّ منهما؛ رومانيا، اليابان، إيران وغيرها.

لا يعتمد المكان على بيع منتجات كما هو معتاد في المقاهي، سواء مشروبات أو أكل، إنما يأتي الضيوف إليه ويدفعون مقابل الوقت الذي يقضونه هناك، بمعنى، تساوي الدقيقة في المكان 50 سنتا، أي نصف يورو. وبالتالي، عندما يدخل ضيف إلى "بيكش"، تُسجّل لونا أو نينا على ورقة صغيرة الوقت الذي وصل به، وتوضع الورقة داخل "طاجين" صغير وتُمنح له حتى وقت مغادرته، حيث يدفع مقابل الوقت الذي قضاه في المكان.

عادة، يختار الناس أن يفتتحون مشاريع ثقافيّة، مقاهي أو بارات في أحياء أكثر زخمًا بالحياة، مثل حي كرويستبرغ أو نويكولن، فاختيار لونا ونينا لحيّ فيدينغ هو غير متوقّع في مثل وقت المدينة هذا. في حديث مع لونا عن هذا الجانب، وعن اختيار فيدينغ كحيّ لإنشاء مشروعهما، قالت: "نشعر أن هذه المنطقة مليئة بالاحتمالات والإمكانيات، وهي قابلة للتطوير والتغيير. كما ونجد أن هذا الشّارع يشكّل نقطة التقاء، هناك محطتا مترو قريبتان من المكان، كما وأن المكان محاط بمناطق متنوعة الخلفيات الثّقافيّة، فمن جهة هنالك منطقة بحضور عربيّ طاغ، كما منطقة أخرى بحضور تركيّ وكذلك أفريقيّ وشرق أوروبيّ، وهذا أمر لطيف، حيث إن التنوع الثّقافيّ هذا حاضر في بيكش أيضًا. ولا يزال الحيّ قابلاً للحياة وللمعيشة من أحياء أخرى".

برلين بيت الثقافات
تعيش المدن بشكل أو بآخر في "بيكش"، سواء في اسم المقهى أو في تصميمه الداخليّ، برنامجه وموسيقاه، كما أن برلين حاضرة فيه بالتنوع الثّقافيّ الذي تعيشه المدينة مؤخرًا، خاصّة بسبب لجوء الناس إليها، قسرًا أم اختيارًا من كافة أنحاء العالم. بالنسبة للونا، التي وُلدت في ألمانيا وتنقلّت بين مدن عديدة في الشرق الأوسط، المغرب، شمال أميركا وأوروبا، لم يكن لديها مدينة تشعر بالانتماء الكامل لها. وتضيف: "لكن برلين كانت مختلفة. عندما انتقلت لأوّل مرة إلى هنا، كنت وحيدة، كان الطقس شتاءً والمدينة كئيبة. وانتقلت إلى هنا بسبب العمل ومن ثم قررت الاستقرار. أردت أن أمنح المدينة فرصة. هي مدينة قابلة للحياة، خاصة عندما تكون لديك دائرة الأمان، تشعرين بأنك أقرب للمدينة. وفي هذه المرحلة، أشعر بأنها بيت بالنسبة لي. وهذه المدينة الوحيدة التي تحبّها أمّي في ألمانيا، هي المقيمة في المغرب، وكما تعرفين، الأمّ هي بيت أيضًا، وعندما تزورني، أشعر بالبيت أكثر".

بالنسبة لنينا، الأمر مختلف قليلًا، خاصّة هي المولودة في شرق برلين، فقط مؤخرًا تشعر بأنها قادرة على تسمية برلين بالبيت. وتضيف: "تركت برلين مدّة 8 سنوات، لم أكن عندها قادرة على تحملها، خاصّة كامرأة شابة أرادت تطوير هويّتها، والمدينة فيها ضياع ما. كنت بحاجة للابتعاد قليلًا كي أكون مستقرة وواثقة بمن أكون وبهويّتي. وعندما عدت، كانت لدي هويّة واضحة، عندها أصبحت برلين مكانًا رائعًا لتجريب كل جديد، لأنها قابلة للحياة ومتشوقة لأفكار ومبادرات جديدة، وفيها شبكات أمان. وطبعًا، بالمقابل، الكثير من الناس يأتي إلى هنا لاكتشاف نفسه، ونريد أن نمنح هذه المساحة وهذا البيت، بيكش، للتجريب أيضًا".

تمتلئ برلين بفضاءات ثقافيّة، تضمّ داخلها مشاريع عديدة للدمج بين ثقافات المدينة وناسها. يتيح "بيكش" أيضًا هذه الإمكانية، وفي إجابة عن السّؤال بماذا يختلف "بيكش" فيما يقدّمه ثقافيًا عن فضاءات أخرى، قالت لونا: "ليس حصرًا أن نكون مختلفات بما نقدّمه في المكان، لكننا نرغب بتسليط الضّوء على الجيران والمجتمع المحيط. كما لا نريد أن نقدّم منتجات بأسعار باهظة، سواء أكل أو مشروبات أو منتجات ثقافيّة. كما وأننا نسلط الضوء على الجانب الاجتماعيّ والتنوع بين فئات المجتمع من ناحية ضيوف المكان. كما ولا نريد أن يقتصر المكان على نخبة ثقافيّة معينة من الناس، كل فئات المجتمع بكافة خلفياتها مرحّب بها هنا. وأحيانًا، لدينا خليط جميل من الناس، وهذا يجعلنا سعداء بأن نرى هذا التنوع من الناس من خلفيات ثقافيّة وجغرافيّة عديدة".


امتدادًا لفكرة خلق مساحات في برلين تعمل على دمج بين ثقافات المدينة، خاصّة في مثل هذا الوقت، ترى نينا أن ما تعيشه المدينة اليوم، أو العالم عمومًا، هو أكثر الأوقات ضرورةً لخلق مثل هذه الفضاءات. وتضيف: "لطالما عملت على مفهوم الجيرة، خلال طفولتي كان تركيزي على شرق وغرب برلين. ومن ثم درست في مدرسة إسبانيّة، فكان تركيزي على دمج المهاجرين من أميركا اللاتينيّة في المدينة، وبقي هذا المفهوم حاضرًا مع مرور الوقت، وفي هذا الحيّ تحديدًا، مع وجود مجتمعات عربيّة، تركيّة، أفريقيّة وغيرها، هنالك حاجة أساسيّة لمواصلة العمل على مفهوم الجيرة، إذ لا حاجة للمستقبل إن لم يكن التركيز الآن على الحاضر".

النشاطات والتحديات واللمسات الشخصيّة
خلال ساعات اليوم، يكون "بيكش" بمثابة فضاء للعمل، يصل أفراد مع أجهزة الحواسيب لعملهم الخاص، كما وأيضًا هو بمثابة مختبر، حيث يلتقي الناس لمشاركة أفكار كما وبناء مشاريع مشتركة. يحتوي برنامج المكان على أمسيات موسيقيّة، جلسات حواريّة، ورشات عمل، دورات رياضة تاي تشي، بازار وغيرها. كما ويعتمد المكان على مشاركة أفكار مع الجيران، من ناحية رغباتهم واحتياجاتهم من المكان.

ترى لونا أن فكرة تأسيس فضاء أو مقهى أسهل من التطبيق. وتضيف: "خاصّة عندما نعمل 16 ساعة باليوم على مدار 7 أيام. من جهة، يجب أن نقلل التكاليف، نصنع الكثير من التفاصيل بأيادينا، لكننا لا نريد أن نقلل الجودة. على سبيل المثال أيضًا، نحضر الخضروات والفاكهة من المزرعة مباشرة، بلا وسيط".
بما يتعلّق بالتحديات، ترى لونا أن التحديات تكمن بالخطوات المستقبليّة، خاصّة أن "بيكش" يعتمد ببرنامجه على احتياجات ورغبات الجيران. وتضيف: "نواصل الحديث مع الجيران كما الضيوف عن احتياجاتهم، والتحدي هو ملاءمة برامجنا لهم، حيث بإمكاننا أن نوفّر ما يرغبون. العصف الذهني معهم هو تلقائيّ عندما يزورون المكان، كما وأنهم يبادرون دومًا للمزيد من الاقتراحات".

دلالات

المساهمون