أمستردام.. مدينة لا يتوقف فيها الزمن

أمستردام.. مدينة لا يتوقف فيها الزمن

14 اغسطس 2016
(Mark Dadswell/Getty)
+ الخط -
من باريس أقطع تذكرتي إلى أمستردام مرورًا ببروكسل وروتردام، وحتى آخر نقطة ماء من الراين ورحلة الجنون التي سرت إليها كالمخدرة وبدون تفكير أو تردد. نهرع صوب حلم أخضر، ونحمل الطريق ذكرياتنا وأسماءنا وهواجسنا الخفية وروحنا التي تتوق إلى المجهول.

أركض صباحًا من ايسي ليمولينو من باريس بجرعة قهوة سريعة، وفائض بهجة نادرة. صادفت في المترو ذاك البوسني الجميل؛ منير الذي تمنى لي يومًا سعيدًا وحمّلني سلاماً إلى الجزائر.

ركبت الحافلة من محطة بارسي باتجاه أمستردام في رحلة دامت سبع ساعات، كان أغلب ركابها عجائز فرنسيات يلتهمن العمر والمباهج والجمال كحكمة أخيرة مثلما يلتهمن الفطائر والفواكه بشراهة ومتعة. لم يكن رفيقي طيلة الرحلة إلا رفيقي كافكا وأنا أعيد قراءة كتابه la métamorphose، وموسيقى غجرية نابعة من ذلك الشغف القديم لمنابت الروح... تأملا وقراءة وغفوة خفيفة لنصل مدينة بروكسل حيث كانت الاستراحة وتناول بعض الحلوى والقهوة.

بروكسل تملك سحر باريس أو روح المدن التي تحضك على سبر أغوارها أو اكتشاف ملامحها. مدينة تكتشف في لحظتها وتعرف سرها وحقيقتها في بضع لحظات. سريعا تعبر لأن لا شيء يشدك إليها ولأنها فارغة وباهتة كوجبة باردة.

تستمر الرحلة في طرقات باهرة الاخضرار والنظافة والسلام؛ أنا القادمة من مدن لا تعرف السلام يتملكني حزني العتيق، وغيرتي من بلدان تحترم الإنسان وتقدّس حريته وسلامه. يدق هاتفي على صوت حميم ينتظر قدومي في محطة لأصل مساءً إلى حضن مدينة كاسرة الجمال يحتضنها الماء من كل جانب وتلفها القنوات كحزام سحري للولادات والأحلام اللذيذة.

في سيارة الصديق المغربي الكريم، نتبادل كلمات قليلة، ولكنها مريحة ومؤنسة وأرتبك أمام كل الجمال الذي يمثل أمامي واستشعره بحواسي كلها. أتشرب العطر والدهشة واللغة التي تصمت أمام كل هذا الإعجاز. في حديقة البيت كان الطقس مغربيًا بامتياز الاستقبال والبشر الودودين اللطفاء، والسيدة الهولندية التي كانت تضفي على جلستنا خفة وظرفًا وكلمات بالدارجة المغربية على شاكلة "مزيان" و"خايبة" و"صافي"، وغيرها من المفردات التي التقطتها من زوجها الفنان التشكيلي المغربي.

كانت رائحة الطاجين المغربي تؤجج الشهية، وتفتح الجسد على ملذات الجلوس إلى من يأسرون القلب ويغدقون عليك محبة. كانت الشمس قد غادرت متأخرة هنا في مدن الشمال وظلال الأشجار تندلق منها حكايات عذبة وضحكات ندية لسهرة ستطول في حضن الصمت والشوق الدفين. وكانت العيون تؤجل الفرح الباذخ لصباح مشمس كالقلب.

أمستردام صباح الورد الضاحك على الجسور والقنوات المائية، صباح الأحمر والأسود الذي ارتديته لك كفاتحة لعشق بدأ بالأحمر والأسود لستندال، ونثرته الريح في الأعالي والمدن: إسطنبول إسبانيا، باريس، وأمستردام.

مضى ذلك سريعاً ومجنوناً ككل الأشياء الجميلة التي لا تستوعب أو يقبض عليها. كل شيء هنا منفلت ومجنون ومنذور للغواية والإغراء وحده. لم يعد بمقدوري إلا الرقص على إيقاع مدينة تهبك متاحفها وأزهار التوليب ورسومات فان غوغ ورامبرانت، وقباقيب من خشب، وأجبان تكدست فيها رائحة التاريخ وعراقة المدن التي انهكت بالحروب واعتنقت البروستانتية لتتجاور منازلها بعدل وتعمل بقوة لتجميع أموال ضخمة ترقد في بنك يديره اليهود ويدركون أن خزانتهم لا تنضب ولا يأتي عليها زوال أو نهاية. بشر يعملون ويحصلون ذلك بذكاء وجهد.

لا تملّ العين من النظر إلى دعوة الجمال وشكل البنايات البسيطة الأنيقة التي شيدت بعناية وذوق. ولا ينتهي العد من تعقب القنوات المائية التي لا تخلو من زهور وأفراح مبطنة لقبل يتبادلها شباب يدخن الحشيش بحرية وبشكل قانوني. يأتي معظمهم من أوروبا لاقتناص هذه الملذات والاستمتاع بتناغم مدينة لا يتوقف فيها الزمن ولا الحركة.

أستحضر في خطواتي أغنية جاك برال وميناء أمستردام وأصاعد في بهجتي المائية في القوارب التي تحلق بك في تاريخ مدينة مذهلة. كان الهواء خفيفاً كالروح وقطرات المطر التي بللت شعري تتسرب إلى صحراء بعيدة تركتها هناك خلفي. أمام تمثال العناق والقبلة أتوقف لأزداد يقينا أن لا شيء يقف في وجه الحب، وأمام أسبينوزا أفهم أن هذا الجد غير خارطة الأشياء وموازين العالم. عبرت تلك البيوت المقامة في الماء وتمنيت في داخلي أن أسكن أحدها يوماً، وأستقل دراجة من دراجات أمستردام بفستان ذي أزهار بلون القلب، وأنام على هذا الحلم الخاطف الآسر مثل عيني حبيب.




المساهمون