"غرباء تماماً": إنه صندوقنا الأسود

"غرباء تماماً": إنه صندوقنا الأسود

05 ديسمبر 2016
الأصدقاء في لقطة "سيلفي" في "غرباء تماماً" لباولو جينوفيزي(فيسبوك)
+ الخط -
"إنه (الهاتف الخلوي) صندوقنا الأسود".
يختصر هذا التعبير الحبكة الدرامية لـ "غرباء تماماً"، للإيطالي باولو جينوفيزي، الفائز بـ "جائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو"، الموزّعة على كتّابه، وهم (بالإضافة إلى جينوفيزي): فيليبّو بولونيا، وباولو كوستيلا، وباولا مامّيني، ورولاندو رافيلّو، في الدورة الـ 38 (15 ـ 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016) لـ "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي". تعبيرٌ يختزل يوميات مئات ملايين الأفراد في العالم، الذين يجدون أنفسهم "أسرى" هذا الجهاز الحديث، من دون قدرة على/ رغبة في التخلّص منه.
لن يُسطِّح "غرباء تماماً" الحكاية، لأنه ـ إذْ يضع الهاتف الخلوي نُصْب عينيه، ليُحلِّل دوره التدميري في حياة الأفراد، وينتقد حضوره في يومياتهم، وتفاصيل عيشهم، ونواة علاقاتهم بأنفسهم وبالآخرين ـ يُقارِب حالة عصرية متكاملة، لن يكون الهاتف الخلوي سبباً وحيداً لكشف عوراتها واحتيالاتها وأكاذيبها، في البُنى الأساسية للعلاقات الإنسانية بين الأفراد، بل سيكون سبباً إضافياً (وربما أساسياً) لتبيان الاهتراء الحاصل في ذات الفرد، وداخل الجماعة.
والحالة العصرية تلك تتمثّل بانصياعٍ شبه تام لكثيرين إزاء تقنيات متطوّرة، تساهم في تعطيل كلّ حوار مباشر بينهم، وكل علاقة إنسانية سوية؛ وتساعد على احتراف الخديعة والكذب والتواري في أجهزة تقنية صغيرة الحجم، يُظَنّ أنها أقدر على حماية المرء وأفعاله من كلّ اختراقٍ.
بفضل السيناريو، تتجلّى السخرية الكوميدية في صُوَرٍ سينمائية جميلة، تستند إلى كتابةٍ تُعرّي وتفضح بهدوء خبيث، وبجمالٍ دراميّ موارب، وتكشف أحد أسوأ مآزق الحياة العصرية، المتمثّل بهذا الهاتف الخلوي، وبعلاقة الناس به، وبما يحتويه من أسرارٍ شخصية، تُخفي حقائق كثيرة عن مستخدميه، وعن سلوكهم وأسلوب عيشهم. وفي مقابل كتابة كهذه، تظهر براعة أداءٍ، يتلاءم ومناخٍ ضاغط، داخل غرفة طعام، في سهرة عشاء؛ وجمالية تصويرٍ (فابريزيو لوتشي) تُستَكْمل حِرفيته البصرية بتوليفٍ (كونسويلّو كاتوتشي)، يؤكّد فداحة المآزق والصدامات والأكاذيب، ويتلاعب، فنياً وتقنياً، بمسارات متداخلةٍ لأحداثٍ، تنكشف تعقيداتها وتداخلاتها مع تصاعد التوتر والارتباك الدراميّين.
تعبير "الصندوق الأسود" معروفٌ: إنه الجهاز الوحيد الذي ينجو، عادةً، بعد سقوط الطائرات في حوادث مختلفة. وبفضله، يتمكّن المحقّقون من معرفة مجريات ما قبل الحوادث تلك، بتسجيله الأحاديث كلّها الدائرة في غرف قيادة الطائرات. لذا، يبدو استخدام التعبير، في إحدى اللحظات السابقة للمواجهة والتعري في صالة العشاء المنزلي، صائباً، ومدوّياً في مرارته الهازئة من الذات، أولاً وأساساً.
تنطلق الحكاية من نواة درامية بسيطة وعادية: زوجان يستعدّان لاستقبال أصدقاء لهما، رفقة زوجاتٍ أو صديقاتٍ، لسهرة عشاء. لديهما ابنة في بداية المراهقة، مع ما تحمله المراهقة من أسئلة وتحوّلات في الجسد والروح والتفكير والانفعال. هناك صدام بين الابنة ووالدتها، يحاول الأب/ الزوج التخفيف من حدّته. يتوافد المدعوون، ثم تخرج الابنة لسهرةٍ مع صديقها. دردشات عادية، وتساؤلات حول سبب غياب الصديقة الجديدة لأحد الأصدقاء الشباب الأربعة.
لن تبدأ السهرة، فعلياً، إلاّ عندما تقترح صاحبة الدعوة ممارسة لعبةٍ تبدو، لوهلة، أنها للتسلية والمرح: يضع كل واحد من الجالسين إلى طاولة العشاء هاتفه الخلوي أمام الجميع، الذين سيتشاركون في قراءة الرسائل، والاستماع إلى الاتصالات الهاتفية.
في الشكل، تبدو الثنائيات الثلاث "على خير ما يُرام": حبّ صافٍ، وعلاقة جيدة ومتينة، ولا مكان لأي سرّ، مع أن تلميحات عابرة يمرّرها الفيلم في لقطات مختلفة، ستنجلي حقيقتها لاحقاً. أما اللعبة، فلن تُبقي أحداً على ما يُرام: شيئاً فشيئاً، وبذكاءٍ درامي مثير للضحك والسخرية والمرارة، في آنٍ واحد، تنكشف حقيقة كل فردٍ منهم، في شؤونٍ سرية، يظنّ أنه قادرٌ على حمايتها من الطرف الآخر. أكاذيب متعلّقة بانفعالات وعلاقات وتفاصيل تتناقض والشكل، ما يؤدّي إلى تعرية كاملةٍ لكل واحدٍ منهم أمام ذاته، وأمام الآخرين.
لكن التعرية لن تكون سلبية، دائماً. وهذا ما يُخفِّف من التشنّج، أولاً؛ وما يمنح الحبكة مصداقيةً إنسانية ودرامية وفنية، ثانياً؛ وما يضع المناخ كلّه في مستوى سينمائيّ متماسك ومتين البناء، ثالثاً. ففي مقابل "علاقات عاطفية" تنشأ بين زوجة أحد الأصدقاء وصديقه الجالس معه إلى الطاولة نفسها، مثلاً، يظهر صدق زوجة آخر في علاقة افتراضية بحتة، أي عبر الهاتف الخلوي، مع رجلٍ تشعر، للحظة، برغبة في ممارسة "فانتاسمات" معينة معه، من دون التورّط أكثر من ذلك في علاقة لن تكون مريحة. أما الصديق الرابع، القادم إلى السهرة وحيداً، فيتبيّن أنه مثلي الجنس، وأنه لم يأتِ إليهم برفقة حبيبه. هنا، تظهر مواقف وأفكار المجموعة إزاء المثلية الجنسية، ما يجعل الفيلم قريباً من واقعٍ اجتماعي إنساني.
يحمل "غرباء تماماً" أكثر من مضمونٍ درامي انتقادي لاذع، بأسلوب ساخر ومُحبَّب، وباشتغالٍ سينمائي متين الصُنعة والبناء البصري.



المساهمون